يحفل فيلم "سبِكتر" (الطيف)؛ أحدث أفلام سلسلة العميل السري جيمس بوند، بكل مكونات الأعمال القديمة من هذه السلسلة؛ بداية من احتساء الـ"مارتيني"، وصولا إلى مشاهد المباني التي تنفجر. لكن هل حان الوقت لأن ينال العميل "007" قسطا من الراحة؟ يبدو ذلك محتملا في رأي الناقد السينمائي نيكولاس باربر. ربما يكون الستار قد أُسدل على أحداث أحدث أفلام سلسلة جيمس بوند بتلك العبارة المعتادة: "جيمس بوند سيعود"، لكنها كانت تعني هذه المرة في واقع الأمر: "جيمس بوند قد عاد". فبعد سنوات من الصراع لتحديد طابعها وهويتها؛ كانت سلسلة بوند قد كفت في نهاية المطاف عن محاولة خوض غمار المنافسة مع سلسلة أفلام "بورن"، تلك السلسلة التي تفتقر إلى الخشونة والقوة وتدور أحداثها حول رجل اغتيالات يعمل لحساب الاستخبارات المركزية الأمريكية. وباتت سلسلة أفلام العميل 007 تركز على سمات الفكاهة والبذخ والفخامة التي طالما راقت لعشاقها على مدار تاريخهم معها. ففي إطار أحداث الفيلم قبل الأخير في سلسلة بوند - الذي حمل عنوان "سكايفول" وأخرجه سام مندَيس - أعيدت إلى الحياة تلك الشخصية التي تُعرف في السلسلة باسم "كيو"، وجسدها الممثل بِن ويشاو، وكذلك شخصية "ميس مَني بيني" والتي أدتها الممثلة ناعومي هاريس. وفي "سكايفول" أيضا، أُخرجت الشخصية المعروفة باسم "إم" - والتي جسدها الممثل ريف فاينز - من مخبأها الحافل بأحدث المبتكرات العلمية والتكنولوجية، وأُدخلت إلى مكتب يعود للأيام الخوالي، مكسوة جدرانه بألواح خشبية بمجمع المكاتب الحكومية البريطانية المعروف باسم "وايت هول". كما أن بوند نفسه (الذي جسد شخصيته الممثل دانيال كريغ) بدا في "سكايفول" وقد نفض عن نفسه ذكرى خطيبته المتوفاة التي تُدعى "فِسبر ليند" وبات على أهبة الاستعداد للانخراط مجددا في مهمة إنقاذ العالم من الأشرار المصابين بجنون العظمة، ممن يلقون بأعدائهم إلى أسماك القرش المدللة لديهم، ويتخذون من البراكين الخامدة مخابئ يلوذون بها. كان ذلك ما كنا ننتظره على أي حال: مباهاة بالتفاصيل المرتبطة بمشاعر الحنين إلى الماضي ممزوجة بطابع عصري، ليتربع العميل السري 007 على القمة من جديد. ولكن يبدو أن "سبِكتر"، ذاك العمل الذي طال انتظاره والذي جاء كاستكمال لفيلم "سكايفول"، يصلح لأن يشكل نموذجا يضرب بصدده المثل القائل "إحذر مما تتمناه فقد يجلب لك الوبال". فمشكلة "سبِكتر" – بالنسبة للبعض ممن كانوا متعطشين لمشاهدة فيلم جديد لجيمس بوند يكتظ بكل المكونات المألوفة لأعماله – أنه كان حافلا بهذه المكونات بشكل مفرط للغاية. فبداية من مشاهد احتساء المارتيني إلى تلك التي تُظهر مباني تعصف بها الانفجارات، بدا الفيلم كله وكأنه تجميع لمشاهد من أعمال أخرى مبكرة عنه في سلسلة بوند من تلك المتاحة على موقع يوتيوب. هو استعادة لما شوهد من قبل ولكن على نحو ركيك من شأنه الإضرار بالعمل. فهل تتذكر الممثل بيرس بروسنان وهو يمخر عباب نهر التيمز على متن قارب سريع ضمن أحداث فيلم "وورلد إز نوت إناف" (العالم ليس كافيا) ؛ حسنا ستجد كريغ يقوم بالأمر نفسه في "سبِكتر". وهل تتذكر زيارة الممثل جورج لازينبي إلى مصحة في جبال الألب تعود إلى عصر ما بعد بدء غزو الفضاء عام 1957، وذلك في إطار أحداث فيلم "هير ماجيستيز سيكرت سيرفيس" (الخدمة السرية لصاحبة الجلالة)؛ سنجد في "سبِكتر" كذلك زيارة مماثلة يقوم بها كريغ. في السياق نفسه، هل بوسع أي منّا تذكر الممثليّن شَون كونري وروجر مور وهما يخوضان معارك ضارية باللكمات على متن قطارات فاخرة في أفلام مثل "من روسيا مع الحب" و"عش ودعهم يموتون" و"الجاسوس الذي أحبني"؟ في فيلم "سبِكتر" توجد معركة مماثلة يمكن أن يضمها المرء إلى تلك المجموعة من المشاهد المكررة المُستعادة. هناك بضعة مشاهد ذات طابع غير مألوف على نحو أخاذ في "سبِكتر". فالعمل، الذي أخرجه سام مندَيس أيضا، يستهل أحداثه بمشهد مطاردة طويل في مكسيكو سيتي يستعرض فيه المخرج قدراته السينمائية، لنعايش معه وقائع اليوم الصاخب؛ الذي تحتفل فيه المدينة بما يُعرف بـ"موكب الموتى"، وندلف خلال المشهد إلى أحد الفنادق، لنرتقي طوابقه باستخدام أحد المصاعد، ومنه إلى غرفة ندخلها لنخرج من نافذتها مباشرة، كل ذلك في لقطة واحدة مستمرة. في وقت لاحق، يعقد أوغاد الفيلم وأشراره ما يبدو وأنه اجتماع قمة، في مشهد بوسعنا تصنيفه على أنه الأكثر هدوءا والأشد إثارة للخوف في النفس من نوعه على الإطلاق في كل أفلام سلسلة بوند. رغم ذلك، لا تعدو غالبية أحداث الفيلم جولة بين ذكريات الماضي. فـ"بوند" لا يضطلع في "سبِكتر" بمهمة طارئة لا تحتمل سوى خيار واحد إما الحياة أو الموت، بل إنه في رحلة مفعمة بالمشاعر؛ جولة احتفالية يسودها الهدوء والاسترخاء من تلك التي يقوم بها الفائز بسباق ما على صهوة جواده، أكثر من كون الفيلم خوضا للسباق نفسه. ففي هذا العمل لا يبدو قط أن مصير البشرية يعتمد على ما يفعله العميل السري 007، سواء وهو يقاتل الأوغاد أو يغوي النساء أو يقوم بإحدى رحلاته التي يتنقل فيها بدون جهد تقريبا وعلى نحو محموم ولاهث من بلد لآخر. وتوحي أحداث الفيلم بأنه يفعل كل ذلك؛ فقط لكي يتذكر مباهج الأيام الخوالي. بطبيعة الحال، يمكن أن تلتهب كفاك بالتصفيق كلما ظهر على الشاشة مشهد جديد مذهل في روعته بتوقيع المخرج منديس. كما أن البسمة قد ترتسم على شفتيك وأنت تتابع الحوار، الذي جاء أكثر إحكاما وإمتاعا من المعتاد. ولكن ما سيستعصي عليك حقا هو أن تصدق أن أيا مما يدور أمام عينيك من أحداث ذو تأثير يذكر. رغم ذلك، فما من انتقادات يمكن توجيهها لذاك الرجل الوسيم المتألق في سترة السهرة، أو بالأحرى لبطل الفيلم دانيال كريغ، الذي يبدو مرتاحا أكثر من أي وقت مضى وهو يؤدي دور البطولة، كما أنه سجل باسمه ذلك الأسلوب المميز الذي يجسد به الشخصية. فـ"كريغ" يقدم العميل 007 على أنه رجل دمث، حسن المعشر والحديث، يتسم بالتواضع وذو ذهن خال من الهموم وحس ساخر وشخصية ممتعة يحالفها النجاح أينما حلت. كما أنه لا يقوى على منع نفسه من الابتسام لدى سماعه الادعاءات الطنانة التي ترد على ألسنة رؤسائه وأعدائه على حد سواء. كما أن بوند، بأداء كريغ، هو شخص لا يبهره أو يزعجه شيء، فضلا عن أنه لا يتردد في أن يشق طريقه بيديه العاريتين عبر الجدران إذا ما كانت تحول بينه وبين ما يريد. إلى جانب ذلك، يظهر بوند في أحدث أفلامه وقد نشأ في نهاية المطاف تناغم حقيقي بينه وبين فتاته الرئيسية في العمل، التي تؤدي دورها هذه المرة الممثلة الفرنسية ليا سيدو. وبينما تجسد الممثلة الإيطالية مونيكا بيلوتشي شخصية بائسة ومهجورة خلال الدور القصير الذي قدمته في الفيلم؛ فإن شخصية مادلين سوان التي تؤديها سيدو تتسم بالشراسة والاستقلالية تماما مثل بوند نفسه. الأكثر أهمية أن الأحداث تظهرها وقد راق لها العميل 007 بالفعل، ولذا فعندما ينخرطان في علاقة حميمة يكون ذلك ناجما عن رغبة متبادلة لديهما، وليس لأن تقاليد أفلام جيمس بوند تتطلب ذلك. لا جديد يُضاف؟ لكن الشخصيات الشريرة في فيلم "سبِكتر" تمثل المبعث الأكبر والأوحد لخيبة أمل مشاهديه. فالممثل داف باوتسيتا، الذي يجسد شخصية السيد هينكس، ليس إلا جدارا من العضلات يرتدي سترة من ثلاث قطع. أما كريستوف وولتز الذي يجسد شخصية تُدعى فرانز أوبرهازر، فنادرا ما يلمحه المشاهدون خلال الدقائق التسعين الأولى من العمل. وعندما يظهر على الشاشة، يستلهم هذا الرجل أداؤه المخنث السادي الرتيب الذي قدمه في فيلم "إنغولوريوس باستردس" (أوغاد مجهولون)، دون أن يستوحي أيا من سمات الشخصية التي جسدها الممثل هافيير باردِم في "سكاي فول"، والتي اتسمت بطابع جنوني مبالغ فيه. ووفقا لقصة الفيلم، فإن أوبرهازر هو رجل ذو قوة مطلقة يحرك كل الخيوط من وراء الستار. لكن في واقع الأمر وحسبما بدا في الفيلم، فقد جاءت هذه الشخصية مهتزة بعض الشيء. وربما يعود ذلك لاستحالة أن يجسد المرء شخصية رجل ذي عقل إجرامي مخيف بحق وهو يرتدي حذاءً بلا كعب أو جوارب. كما أن خطته للتنصت على الاتصالات في مختلف أنحاء العالم، لا يبدو أنها تضاهي في طابعها الشيطاني ولو نصف مقدار الشر الكامن في الخطط المماثلة التي يمكن لحكوماتنا المنتخبة ديمقراطيا تطبيقها بالفعل. رغم كل ذلك، فإن المشكلة المحورية المتعلقة بشخصية أوبرهازر تكمن فقط في كونه مألوفا للمشاهد أكثر من اللازم. وهكذا فإذا كان "سكاي فول" قد بشّر مشاهديه بمستقبل أكثر إثارة للعميل 2007، فإن فيلم "سبٍكتر"، الذي يوجه أنظاره إلى الوراء، يتعلق كله بماضي جيمس بوند لا بمستقبله. من جهة أخرى، فبقدر سخافة حبكته – ونحن نعلم أنه من المسموح لأفلام بوند أن تكون لها مثل هذه الحبكات – يبدو "سبِكتر" ذا طابع حزين على نحو مستغرب، يغص بالغرف الغامضة التي تغمرها الظلال، ويعج بدرجات اللون البني المرتبط بفصل الخريف. أكثر من ذلك، فإن الفيلم يتسم بطابع وداعي، كما لو كان منديس وفريق عمله - الذين كدسوا في العمل كل ما يمكن لهم تصوره من عناصر مرتبطة بأعمال بوند - قد خلصوا إلى أنه ما من جديد يمكن لسلسلة العميل السري 007 تقديمه. وربما كان هؤلاء على حق، ففي النهاية، يمثل "سبِكتر" الفيلم الـ 24 من أفلام هذه السلسلة، لذا ربما بات من حق بوند نيل قسط من الراحة الطويلة واللطيفة. بطبيعة الحال سيعود جيمس بوند، فهو دائما ما يفعل ذلك. ولكن بينما جعل "سكاي فول" مشاهديه مفعمين بالترقب لمشاهدة مغامرة بوند المقبلة، فإن "سبِكتر" يتركك وقد غمرك شعورٌ مفاده بأنه لن يكون أمرا سيئا إذا لم تشاهد فيلما جديدا لجيمس بوند لعقد أو عقدين قادمين من الزمان.BBC