منة الله صابر إذا كان عمري الآن 30 عامًا، فبإمكاني القول أنني أحاول خفض وزني طوال 20 عامًا على الأقل.. لطالما مثلت الأمور المتعلقة بالطعام والوزن واحدًا من أكبر هواجسي، بل إنه في أحيان كثيرة كان الهاجس الأكبر بالفعل، بحيث إنني مثلًا كنت أقضي أيامًا لا أفكر سوى فيما سآكله اليوم، وما إن كنت سأخصص هذا اليوم كـ "يوم مفتوح" آكل فيه ما أشتهي ثم أبدأ الريجيم الحاسم جدًّا في اليوم التالي (هكذا كنت أقول لنفسي)، أو أن أستيقظ وأنا أفكر في أن اليوم هو أول أيام "حميتي الحقيقية"، وبالطبع فإن أيًّا من الحميات الحقيقية التي عزمت تنفيذها لم يكن حقيقيًّا على الإطلاق، وكنت أتراجع في الغالب بعد أسبوع، وفي أفضل الأحوال بعد شهر. أريد أن أضيف أنني غامرت بحياتي ولجأت لعملية جراحية لإنقاص الوزن، يتم فيها قص جزء كبير من المعدة بحيث لا تتسع إلا لكمية ضئيلة من الطعام، وبالتالي ينقص الوزن تلقائيًّا بغض النظر عن نوعية الطعام الذي يتناوله المرء، فهو في كل الأحوال سيأكل ثلاث أو أربع ملاعق على أقصى تقدير، كانت تلك عملية خطرة بالفعل، فبالإضافة لكل المخاطر الطبية كانت الخطورة الرئيسة أنها ستجرى في مصر، وأي جراحة في مصر هي جراحة خطرة، ومغامرة فعلية بحياة الإنسان. على كل أُجريت الجراحة، وساعدتني بعض الشيء في خفض وزني، لكن لم أصل إلى ما أطمح إليه، وهكذا عدت لنقطة البدء، أي إلى ضرورة اتباع حمية غذائية لإنقاص وزني. خلال تلك الفترة كنت قد كثفت قراءاتي أكثر من أي وقت مضى، إذ كانت القراءة تقريبًا هي النشاط الرئيس في حياتي، وبسبب القراءة لا غيرها، بدأت أراجع الطريقة التي أنظر بها للطعام، ومايمثله الطعام في حياتي عمومًا. ما حدث باختصار هو أنني شعرتُ باحتقار شديد لعلاقتي بالطعام، وكان الأمر يتعدى فكرة النباتية أو الامتناع عن تناول نوع ما من الأطعمة، إلى النظر لتعاملي مع الطعام نفسه أيًّا كان نوعه، شعرت بسخافة الاستغراق في هذا الترف خاوي المعنى، ما كل هذا التعلق؟ ما كل هذا الانهزام أمام الطعام؟ لماذا أعيش نمطًا من الحياة يجعلني غير قادرة على إدراك أي معنى في أن "الغني من استغنى"؟ متى أصبحت أعتبر الحديث عن الاستغناء دعوة إلى الكآبة؟ وكيف جردته من كل معاني السمو والقوة؟ لقد قررت ببساطة مجابهة الغرائز الرئيسة التي خلقت علاقتي بالطعام، أي أنني بدلًا من الشعور "بالحرمان" أثناء الحمية، أردت أن أشعر "بالزهد" في هذا الطعام، سواء كنت في حمية أو لم أكن. أتممت حوالي شهرًا مجاهدة نفسي من أجل الوصول لشعور حقيقي بالزهد في الطعام، كنت أُقل من الطعام جدًّا، آكل أقل مما يكفيني، وأشعر بالجوع معظم الوقت، كنت حينما أتناول صحنًا من السلاطة يملأ معدتي عن آخرها، كنت أشعر بنوع من تأنيب الضمير، ولم يكن الأمر يتعلق بالحمية أو السعرات الحرارية -فسعرات السلاطة قليلة على كل حال، ولكن كنت أشعر برفض لفكرة (الامتلاء)، كما كرهت المطاعم الفاخرة والوجبات الفندقية أيما كراهية، ففي الواقع، لا يملك المرء بعد قراءة رواية مثل "متشردًا في باريس ولندن" سوى أن يكره تلك الأمكان وأن يفقد شيئًا من احترامه لنفسه في حال ما أصر أن يكون زبونًا لها. إنني أعيش في وطن لا يحترمني، لا يحترم مواطنتي ولا آدميتي وربما لا يعترف بهما من الأساس، الشارع لا يحترمني، الجامعات والمصالح الحكومية، المطاعم وأماكن النزهات، أيًا منها لا يحترمني، وليس لقلة المال أو وفرته أية علاقة بذلك، فاحترام أموالي ليس احترامًا لي بالطبع ولكنه بأرق الأوصاف استغلالًا واستخفافًا بي، وعليه وفي ظل كل ظروف عدم الاحترام تلك، فلا يتبقى لي في الحقيقة سوى احترامي لنفسي، وعند هذه اللحظة في حياتي لم أعد قادرة على احترام كل هذا الجشع وعدم القدرة على السيطرة اللذين أجدهما في نفسي، كما لم أعد قادرة على تجاهل الأمر أو تخفيفه، وبالتالي، وكمحاولة لترويض نفسي وكبح جموحها السفيه، قررت الامتناع كلية عن الطعام. وبسبب مقدماته فلم يكن القرار صعبًا في اتخاذه، قرأتُ بالطبع عن الأمر، قرأتُ كثيرًا، وفي الحقيقة فإن كل الكتابات كانت تبشر بفوائد صحية هائلة حال تطبيق هذا النوع من الصيام (الذي أطلقوا عليه الصوم الطبي)، أي شرب الماء فقط، وبالنسبة لي فلم أكن أكترث بأي فوائد أو أضرار، إذ لم يكن لم يكن الأمر بالنسبة لي علاجًا جسديًّا بقدر ما كان علاجًا فكريًّا وسلوكيًّا، لقد قرأتُ مثلًا عن الخسارات الكبيرة في الوزن أثناء هذا الصوم، لكن مما فاجئني أنني لم أكن أكترث، أنا التي أضاعت من عمرها سنوات تبحث عن أي وسيلة للتخلص من الشحوم، وقتها لم أكن أفكر سوى أن كل هذا هراء، وأنني أسمو إلى غاية أرفع بكثير. كنت جائعة ربما في أول يومين فقط من الصوم، أما في الأيام التالية فلم تكن المشكلة في الجوع أبدًا.. إذ كنت أشعر غالبًا بالامتلاء! ولكن المشكلة الكبرى كانت في الدوار والوهن الشديد اللذان كنت أشعر بهما، واللذان جعلا أي عمل تافه يتم بمشقة بالغة، كنت هزيلة للغاية طوال مدة الصوم، الشيء الوحيد الذي كنت أفعله تقريبًا هو القراءة وتدوين الملاحظات، والكتابة أحيانًا، أما سوى ذلك فإن كل حركة كانت تتم ببطء شديد، ولا أعرف كيف كان عقلي متيقظًا رغم كل هذا الضعف، لكن كل ما كتب عن الصوم الطبي كان يؤكد حدوث ذلك، ولم أكن لأصدق مطلقًا لولا أنني جربت بنفسي. كنت أعد الطعام لأسرتي يوميًّا دون أن أهتز لروائح الطعام أو مشاهده، كانت داخلي رغبة صادقة في التمرد، وكانت المتعة التي أشعر بها في قدرتي على المقاومة والرفض.. أكبر من أي متعة شعرت بها أثناء التهام أي من أنواع الطعام. لم أكن أشعر بأي رغبة في الإفطار، أقصد قطع الصوم والعودة للطعام، كنت أتمنى لو يساعدني جسدي في إتمام هذه الثورة للأبد، كنت إذا ما صادفت صورة لنوع من الطعام أحببته في السابق، كنت أستغرق وقتًا في النظر إليها، وأشعر بسعادة في قدرتي على التحرر من هذا التعلق السفيه، في العموم.. كنت سعيدة باكتشاف قوة لم يخطر لي أبدًا أنني أمتلكها. فيما يخص الوزن فلقد خسرت بعض الكيلوجرامات بالطبع، لكن في ظل الإعياء الذي كنت أمر به، كان قلقي من عدم قدرتي على إكمال الصوم أكبر من أي شعور آخر بشأن الوزن أو غيره. بعد فترة من الصوم أخبرت بعض الأصدقاء بشأن صومي، كانت النظرة العامة للأمر أنه "محاولة انتحار"، وأنه يظل بالنسبة لهم ورغم كل ماقدمته من دوافع وتفسيرات غير مفهوم! إذ (لماذا تفعلين ذلك بنفسك؟)، عندما أخبرت زوجي -وهو أول من أخبرت، عن أنني أنوي بدء (صيام طبي) وشرحت له الكيفية، قال لي-وهو طبيب بالمناسبة، أنه لا يرى أي طب في الأمر، وأبلغني بجملة من التحذيرات والأعراض الجانبية التي قد يتسبب فيها هذا الصوم، لكنني كنت مطمئنة لوجوده كملاحظة طبية دائمة، كنت أعرف أن أي تدهور لن يحدث فجأة وأن زوجي سيدق جرس الإنذار إذا ما استشعر خطرًا حقيقيًّا، وفيما عدا ذلك فالأمور تسير على ما يرام، لم أخبر والدَيّ بالطبع، فالأمر بالنسبة لهما لم يكن ليُرى كمجرد محاولة انتحار ولكن في نظرهم سأكون أبلغهم بوفاتي تقريبًا. في اليوم الخامس عشر كان قد بلغ بي الإعياء حد عدم القدرة على إكمال الصوم، الكتب والمقالات كلها كانت تتحدث عن وجوب الراحة التامة خلال فترة الصوم، وبالنسبة لي فعند هذا الحد كان مجرد قيامي بالقسط الأدنى من شؤوني الخاصة عبئًا ثقيلًا للغاية، كما كان يسيطر عليّ الأسف جراء عدم قدرتي على رعاية ابنتي وإعلانها المستمر عن افتقاد تلك الرعاية، قررت قطع الصيام، وكلي قلق من هاجس العودة إلى الجشع مرة أخرى. أظن أنه يتعين عليّ أخيرًا قول شيء عن تأثير الموسيقى خلال فترة صومي.. أعتقد أنني لم أغص في أي لحن من قبل كما حدث معي أثناء الصوم، كان للموسيقى تأثير هو من العجب بمكان بحيث يصح وصفه (بالسحري)، كانت المقطوعة تدور فأدور بكامل روحي في فلكها، كنت ﻻ إراديًّا أغلق عينيّ وأرتحل مع الكلمات والألحان، كنت كالمخمورة بلا خمر، وكانت ابتهالات وتواشيح القراء المصريين أكثر ما يلمس قلبي، وفي أقسى لحظات وهني كنت أشعر أن ثمة طاقة تملأني وتنعش جسدي بسبب تلك الألحان، إلا إنني للأسف لم أكن دائمًا في حالة تسمح لي بسماع أية موسيقى أو أصوات في العموم، إذ كنت أستسلم لشعوري بالضعف، وأستغرق في تأمله. صالحني الصوم على معانٍ كثيرة، ربما أيقظ داخلي شعورًا طفوليًّا ساذجًا وديعًا تجاه الحياة والآخرين، مراجعات كثيرة أجريتها بيني وبين نفسي بشأن مسالك كثيرة عقلية وسلوكية سلكتها فيما قبل بل واعتبرت بعضها منهجًا عموميًّا لي، ربما أضعف الصيام كل شيء وأيقظ العقل، وإنها لمفارقة جديرة بالتأمل أن يكون ضعف المرء طريقه لاكتشاف قوته وقوة الحياة حوله، وباختصار فإن كان بالإمكان تلخيص هذه التجربة في جملة واحدة فستكون: "ما حيلتي والعجز غاية قوتي". تدوينة من موقع هافينجتون بوست العربي