عبدالله مودان في كتابه الرائع "داغستان بلدي"، أصابني "رسول حمزاتوف" عميقاً في الروح، وهزّ فؤادي كما لم يفعل سوى القليل من الأشياء، كأول حب! منذ أن اتخذت القراءة دربًا أسوسُ به ذاتي، وأنحتُ فيه كينونتي الذاهلة، وأنا أفتش عني عند (المنعطفات) التي تستفزّني بشدة؛ الانحناءات ومفترقات الطرق التي أمرّ بها في دربي العسِر، والتي لا أكون بعدها كما كنت من قبل. إنها تلك التي تروّض طيشًا خفيّا أو تطلقُ رسنَ الخيال أو تضرب بعصا موسى بحرَ الحزن وتعبّدُ فيه دربًا نحو النهايات البعيدة، والآمادِ المستحيلة التي لم يكن الوصول لها ممكنًا. هذه المنعطفات هي كتبٌ ككتاب "رسول"! من الجبال، ينحدرُ آبائي. هنالك سكنوا، في أعلى أشواقِ الحجاز المتماسّة مع السماء، وعند الشواهق المنتظرة منذ الأبدية لزيارات المطر ومداعبات الضباب، وقد هبطوا لــ "جدة" منذ عقودٍ للدراسة أو العمل مؤقتًا، لكنّهم ضيّعوا طريق العودة! ولذلك فإنني أفهم بما اندسّ في جيناتي من أحاديث الجبال كثيرًا مما يصف به "رسول" بلاده. "داغستان" تعني "أرض الجبال"، وفي الأساطير التي تسكبها الأمهات على مهود المواليد يقال: "هبّتِ السهولُ لترى من القادم إليها، فكانت الجبال...!" صـــ ٣٤٢ في الكتاب تقرأ أحاديث عن اللغات الكثيرة التي يتحدث بها الداغستانيون، والكتابة، وطقوس المطر والاستسقاء، وأيام الزرعِ والحصاد، وأحاديث لا تنتهي عن الكلمة والقصائد والحب والحرب، والكثير الكثير من الأشواق. ظلّ "رسول" حتى منتصف الكتاب يشرح كيف له أن يكتب هذا الكتاب عن بلده، وفي النصف الثاني منه استرسل في سرده فكان "بلدي"؛ كأنه صخرةٌ عظمى على قمة جبل، أو عقدُ ورود على رأس حسناء. قبل هذا الكتاب لم أكن أعرف عن داغستان سوى نتفٍ من الأخبار. جمهورية كانت في كنفِ الاتحاد السوفييتي، ذاقت حممَ الحرب وأطماع الغزاة فلم تُروَّض نسورُها. قرأتُ في صغري روايةً عن الإمام المجاهد "شامل" والذي قاوم القيصر لثلاثة عقود قبل أن يتم أسره، ثم تتلاحق بعدها الأحداث حتى أُفرج عنه واُستجيب لطلبه في الذهاب لمكة والعيش بها. وقد عشتُ لأعرف أن أجيالا من أحفاد "شامل" هربوا من نيرِ الشيوعية في داغستان- كما في كثيرٍ من جمهوريات الاتحاد السوفييتي الأخرى- ليستقروا في مكة وجدة والطائف والمدينة المنورة حتى يومنا هذا. وفي قصةٍ ترويها لأمي صديقة لخالتي في الطائف، تصفُ فيها عذابات جدّيها حينما فرّا بأخفّ ما يملكان وانطلقا بأبنائهما في دروب الجبال الوعرة، وفي السهوبِ المكشوفة حتى يُسّرَ لهما الاستقرار في الطائف. كان هذا في وقتٍ يردد فيه الشيوعيون العرب "ليسَ في قلبي سوى الثورة وحبيبتي" ويبشّرون بعالمٍ أجمل تسودُ فيه الشيوعية وتبسطُ بساط السلام والوحدة بين كل البشر، قبل أن يذهب بعضهم لهناك ويُصدم بالوجوه الكالحة والمتعبة والبشر الذين يسيرون ببطء في حتمية وديناميكية لا تليق بالإنسان. طبعًا، هذا ليس ما يقوله "رسول"، فهو وفيّ للراية الحمراء كما كان أبوه، غير أن السرد الأدبي في الكتاب يلمس الإنسانيّ فينا أكثر، ويُقارب فيه الكاتب بين متناقضاتٍ عدّة لينسج منها حلّةً بارعة جميلة، وإن حاول أن يزيّن لونَها "الأحمر" كثيراً في أعين القراء. انتهيتُ بالأمس من الكتاب، واليوم، لن أقرأ قصائد يعترض بها "رسول" على نثرهِ المنسدل على الصفحات، ولا قصائد لأبيه "حمزة تسادا" شاعر داغستان، ولن أقرأ قصائد وأغنيات وحكم "أبي طالب"، ولا حديثاً عابراً عن عزفه في الليالي الحزينة. اليوم، لن أسمع عن بطولات "شامل" و"الحاج مراد" ولا عن سني النضال الداغستاني المتمسّك بحبّ جباله، ولا عن قصص الحب والعشق التي يدفّئ الداغستانيون بها برْدَهم القارس، ويعبّدون بها دروب جبالهم الكؤودة. . . . "يخرجُ المسافر في سفر فماذا يحمل معه؟ خمراً يحمل... خبزاً يحمل... لكن يا ضيفي العزيز لن نتأخر في إكرامك ولن تحتاج إلى ما تحمل الجبليّة ستخبز لك خبزاً والجبليّ سيقدم لك خمراً يخرج المسافر في سفر فماذا يحمل معه ؟ خنجراً مشحوذاً يحمل .. لكن يا ضيفي العزيز في الجبال ستُقدم لك فروض الإكرام وإذا كان عدوك لا يغفل عنك فالجبليّ عنده أيضا خنجر وهو سيحميك يخرج المسافر في سفر فماذا يحمل معه ؟ أغنية يحمل... لكن يا ضيفي العزيز الأغاني المدهشة عندنا لا حصر لها في الجبال لكن لا بأس احمل معك أغنيتك فحملها ليس بالثقيل" . . . "رسول! أعدني إلى داغستان. لقد أردت هنا أن أصنع لي سناماً من الشحم، ولكني أضعتُ آخر ما أملك من الريش" إنه كتاب إذا جئته ضيفًا، مدّ لك من السحاب نبيذاً، وناولك الكثير من الحكايات... منقول من الهافينغتون بوست عربي