تنتشر عشرات مجسمات السفن في محترف المهندس الشاب غسان البكري (26 سنة) القائم في ميناء مدينة طرابلس الساحلية في شمال لبنان. وتتوزع هذه النماذج الزاهية على الرفوف والطاولات وأيضا بعض الكراسي بأحجام وألوان مختلفة تضفي على المحترف الذي تصدح فيه الموسيقى ليل نهار طابعا فنيا يجعله أشبه بموقع لتصوير أحد الأفلام لاسيما وأنه يشرف على بحر الميناء التاريخي كما أن الطريق الذي يؤدي إليه غير نافذة وغالبا ما يحولها أولاد الحي ملعبهم الإفتراضي. يمضي الشاب ساعات طويلة يوميا في إحدى شقق مبنى قديم في حارة مار الياس التي تضج بالحركة وتنبض بالحياة صانعا هذه النماذج التي لم تحوله نجما في مدينة طرابلس فحسب بل ستنقله قريبا إلى العالمية بفضل فيلم وثائقي أنجزه المخرج الطرابلسي الياس خلاط بعنوان "بحر المدينة". ويتناول هذا العمل القصير على ما يروي بكري لرويترز "تاريخ صناعة السفن في مدينة طرابلس وكيف انتقلت الحرفة من والدي إلي." ويشارك بكري في مهرجان كان السينمائي الذي ينطلق في ال13 من الشهر الجاري. وتعود الخطوط الأولى لقصة هذا الشاب مع نماذج السفن إلى والده عبد الرحمن البكري الملقب ب"إبن البحر". على حد وصف نجله غسان "والدي ساهم في بناء أول سفينة في الشرق الأوسط منذ أكثر من 50 سنة". وغالباً ما يصادف زائر الحي هذا المسن الهادئ وهو منهمك في تشذيب شجرة قديمة في الباحة الخارجية لمنزله القائم بالقرب من المحترف أو واضعا اللمسات الأخيرة لنموذج تمهيدي صغير (ماكيت) لسفينة أو أخرى. أما ابنه غسان فيعيش هذه الهواية التي يريدها أن تتحول مستقبلا إلى مهنته الأساسية وأسلوب حياة لا يمل منه ولا يتعب. ويروي الشاب لرويترز ان والده كان يسافر كثيرا بحكم عمله في البحر "وكان يجد متعة كبيرة في إنجاز ماكيت عن كل سفينة يعمل عليها. وكان مغرما بالتفاصيل وأثناء مكوثه أشهرا طويلة في البحر كان يدقق في السفن التي يعيش على متنها ويحفظها وما أن يعود إلى الميناء يمضي أوقات الفراغ في إعادة صوغ السفن في نماذج صغيرة". كانت هذه طريقته في تمضية الوقت ما بين سفرة وأخرى من جهة والطريقة الفضلى ليكون أقرب إلى البحر الذي اعتاد نزواته من جهة أخرى. وعندما صار غسان في الثالثة عشرة من عمره صار يزور والده في محترفه القديم مراقبا أسلوبه الدقيق في العمل "وفي ذلك الوقت أضاف والدي إلى هواية صنع نماذج السفن صناعة نماذج المنازل الفخمة. وبطبيعة الحال لم تتوافر الآلات التي تسعفني حاليا في إنهاء النماذج وكان عليه أن يحفر كل شيء بيده". وقال "وقعت في حب هذه الهواية وصرت أنتظر أوقات الفراغ لأسرع إلى المشغل وأطبق ما تعلمته من والدي". ولأن إحدى هوايات الشاب هي تجميع الكتب القديمة كتشف ذات يوم كتابا يعود إلى التاريخ ويروي قصة أبرز السفن في العالم ويعرض عنها مختلف الصور التي أسعفت الشاب في نقلها إلى الواقع. وتمكن بعد تخصصه في الهندسة من العمل على هذه النماذج بطريقة "علمية تدعم كل ما تعلمته أثناء مراقبتي لوالدي من جهة وخلال إختباراتي الشخصية من جهة ثانية". ومع مرور الأيام صار المحترف القديم ملاذ الشاب الشخصي بفعل الساعات الطويلة الذي أمضاها فيه وقد برمج جهاز التلفزيون الذي علقه على أحد الجدران على محطة واحدة تبث الموسيقى. وسرعان ما امتلأت الرفوف على الجدران بنماذج السفن المصغرة وراح غسان البكري يقدم عشرات معارض في مختلف المناطق اللبنانية "وربما أنجزت المجسم الواحد خلال يومين وأيضا ربما تطلبت عملية إنهاء سفينة واحدة أسبوعين". ويؤكد انه تماما كوالده يتجنب شراء الخشب ويستعين بقطع خشبية قديمة يجدها في كل الأماكن. وعندما هدم المنزل الكبير القديم الذي ومع مشاركة وثائقي "بحر المدينة" في مهرجان كان السينمائي بعد أيام يؤكد غسان البكري انه يريد أن يحول هذه الهواية مهنته الرئيسية فيعيش منها ويجول العالم من خلال مجسمات السفن التي ينحتها على صدى الموسيقى العالية التي تصدح في محترفه الذي حوله عالمه الخاص. وتقول غادة حنا (42 عاما) وهي إحدى المعجبات بأعمال البكري "ترعرعت في الميناء ولي مع بحرها عشرات الذكريات. ونماذج السفن التي ينجزها غسان بحب تقربني من طفولتي. ولهذا السبب وضعت إحداها في غرفة الجلوس في منزلي الزوجي في بيروت". أما أستاذ اللغة العربية المتقاعد سيمون الديري (65 سنة) فيرى في المجسمات التي ينجزها الشاب "الانعكاس الأدبي لميناء طرابلس. تلخص كل سفينة قصة كاملة لأكثر من بطل حقيقي عاش يوميات طويلة غائرا في أروقة البحر الافتراضية". رويترز