نظرات في العيش وحيداً وسعيداً

د. كمال عبدالملك
هنري ديفيد ثورو وابن باجة في كتابيهما «بحيرة والدِن» و«تدبير المتوحِّد»، يستكشفان مفهوم العزلة، لكنهما يقتربان منه من منظور وسياق مختلفين.

في فضاء تاريخ الأدب الأميركي، يعتبر كتاب «بحيرة والدن» لهنري ديفيد ثورو ليس فقط شهادة على حياة الانعزال، بل يعتبر أيضاً استكشافاً عميقاً للحالة الإنسانية. ثورو، الذي انسحب إلى الغابات بالقرب من بحيرة والدن في عام 1845، لم يسعَ فقط للهروب من المجتمع، بل للانغماس الأعمق في جوهر الوجود نفسه. من خلال عين ثورو الثاقبة، ينتقل القارئ إلى عالم تتسلّط فيه البساطة، ويعمّ الخمول، ويتلاشى صخب الحياة الحديثة.

من خلال ملاحظاته، يدعونا ثورو إلى إعادة النظر في طبيعة وجودنا. إنه يتحدانا لنتطهر من أدران المادية والاستهلاكية التي تعترض غالباً رؤيتنا، حاثاً إيانا على البحث عن المعنى في بساطة الحياة نفسها. بالنسبة لثورو، الحياة على ضفاف بحيرة والدن لم تكن حياة من العزلة، وإنما حياة من اتصال عميق بالطبيعة، وبالذات، وبالكون الكبير. لم يكن كوخه في بحيرة والدن مأوى فقط، بل كان مختبراً يُقطّر فيه أفكاره، ويُطهّر روحه من أدران المدنية الحديثة.

في عالم تموج فيه الفوضى، ويسلبُ قواه الإرهاقُ، يذكرنا نصّ «والدن» بجمال وقوة حياة العزلة، بعيداً عن مجتمعات البشر. وعن العزلة ولو المؤقتة، يقول ثورو: «أعتقد أنني لا أستطيع الحفاظ على صحتي وروحي إلا إذا قضيت أربع ساعات على الأقل.. أتجول في الغابات وعلى التلال والحقول، خالياً تماماً من جميع الارتباطات الدنيوية».

من ناحية أخرى، يقترب «تدبير المتوحد» لابن باجة من العزلة من وجهة نظر فلسفية وأخلاقية، ضمن سياق اجتماعي. يستكشف ابن باجة العزلة كشرط ضروري للفيلسوف للحفاظ على نفسه من تأثيرات المجتمع المُفْسِدة. يعتبر العزلة وسيلة للفيلسوف للسعي وراء الحقيقة والتأمل والتطوير الفكري. ويرتبط مفهوم ابن باجة للعزلة بأفكاره حول الحكم والأخلاق، حيث يناقش المجتمع المثالي ودور الفيلسوف فيه.

وفي حين يركّز ثورو على الفوائد الشخصية للعزلة في الطبيعة، يمتد منظور ابن باجة إلى الآثار الأوسع للعزلة داخل المجتمع، والسعي وراء الحقيقة الفلسفية. يتميز نهج ثورو بكونه تجريبياً وفردياً، بينما يكون نهج ابن باجة نظرياً وأكثر تجريداً، ما يعكس السياق الثقافي والفكري المختلف لكل منهما.