حودة

الامارات 7 - -سامح المحاريق

كانت بدرية السيد مطربة محلية ظهرت وحصلت على الشهرة من خلال مسيرتها مع إذاعة الإسكندرية، لا يعني ذلك أنها لم تحصل على بعض الشهرة خارج الاسكندرية، هي بالفعل صنفت من أوائل المغنيات الشعبيات المتميزات، ولكن لم يكن من السهل أن تحصل على مكانة في مجتمع الأفندية الذي أفرزته ثورة يوليو، ولم تكن بدارة، كما أسمها أهل الاسكندرية، تستطيع أن تلتقط اشارة صعود الطبقة الوسطى في الخمسينيات والسيتينيات، فالمغنية محدودة الثقافة والتجربة والتعليم كانت عفوية وبريئة وبعيدة عن التكلف والصنعة.
من بين أغانيها الشهيرة والمحلية للغاية بقيت (حودة) من الإغنيات الخفيفة والسريعة، وحودة هو الاسم الذي ينادي به السكندريون على أي شخص يسمى محمود، وتبدأ الأغنية:
موعودة بحبك موعودة
برموشك وعينيك السودة
والله انا خايف تشمت فيا
كل بنات الحتة يا حودة
من بين آلاف الأشخاص الذي يناديهم الناس حودة كان محمود عبد العزيز ابن حي الورديان، عندما ظهرت الأغنية كان طفلاً صغيراً ينتمي للطبقة المتوسطة التي عاشت في الأحياء الخلفية للمدينة القديمة، فالورديان هو أحد الأحياء التي قطنها بكثافة العاملون في المهن المرتبطة بميناء الاسكندرية، وبين مجموعة أخرى من الأحياء الشبيهة يمكن اعتبار الورديان الأقرب لسكن طبقة المساتير من الناس الذين يحققون بعضاً من الفرص لأبنائهم من خلال التعليم، دون أن نتناسى أن ثورة يوليو التي فتحت الطريق لاستكمال التعليم أمام قطاع عريض من المصريين استقبلته وهو في سن الدخول إلى المدرسة، الأمر الذي جعله يسلك طريق ابن الناس حسب المعايير القياسية لهذا الوصف في الخمسينيات من القرن الماضي.
في مرحلة ما كانت الجامعات المصرية تمثل أرضاً خصبة لاحتضان المواهب، واستقبلت جامعة الاسكندرية (حودة) العصري الذي كان سيغضب من أي شخص يناديه بهذه الكلمة التي بقيت من الآثار لمرحلة عالم الميناء وحواشيه، استقبلته في مكانه المناسب، أنشطة التمثيل المسرحي، وأمام سينما متلهفة لصورة الفتى الوسيم أخذ الطريق محمود عبد العزيز ليقدم بجانب حسين فهمي نسخة للفتى الولهان الغربي الملامح، ولكنه استعاد من جديد شخصية (حودة) المشاغب ليرفض أن يستمر في استهلاك نفسه في الرومانسية مثل محمود ياسين، وينتقل حودة للأدوار الصعبة قبل أن يستريح بكثير من الثقة في الكوميديا وفي خانة مختلفة وصعبة فهي ليست كوميديا صريحة، ولكن تصريف كوميدي يظهر وكأنه اختلق في فن التمثيل من أجله فقط، ابتسامة غامضة ومنفلتة تندفع لمجرد رؤيته، ابتسامة تتحول إلى ضحكة صافية وعارمة.
بالمناسبة، عادل إمام يعتبر شخصاً ثقيل الظل في حياته اليومية، متحفظاً ومتعالياً، وبعض ممثلي الكوميديا كانوا يحاولون أن يظهروا بصورة جدية أعطتهم طابعاً غير مستحباً في تعاملهم الحياتي، بينما لم يكن محمود عبد العزيز إلا شخصية واحدة بين الشاشة والشارع، مرحاً منفتحاً وفيلسوفاً على طريقته الخاصة، طريقة زوربا الذي أنتجه البحر في مكان آخر غير بعيد عن (حودة).
تعداد أدواره أمر لا طائل منه، فمن الحفيد إلى ابراهيم الأبيض أكثر من أربعين دوراً بالعلامة الكاملة، وبعض الأفلام كانت تتراوح بين الاستثنائي والخرافي، ولكنها تبدأ بعد أن عودة محمود لـ (حودة) السكندري الجميل، فكان العار وتزوير في أوراق رسمية والصعاليك والبريء والشقة من حق الزوجة والكيف وجري الوحوش والدنيا على جناح يمامة وأبناء وقتلة، في مرحلة كهولته الجميلة، وكان الكيت كات والساحر وابراهيم الأبيض في فترة أستاذيته التي للأسف لن نتحصل منها على المزيد.
في التلفزيون، رأفت الهجان يبقى دائماً أحد المسلسلات الأكثر نجاحاً، وليكن ليالي الحلمية أو أي مسلسل آخر يمتلك القدرة على المزاحمة من خلال السيناريو أو فريق التمثيل، إلا أن الهجان كان محمود عبد العزيز وما تبقى يدور حوله ويحاول أن يلحق به.
حودة كان وفياً لمدينته، سيدفن اليوم في الاسكندرية، ولن يشمت أحد في مدينته التي سقطت من الكوزموبوليتانية إلى فخاخ التسلف والأصولية.



شريط الأخبار