تداعيات العبث والعدمية

الامارات 7 - -محمد خليفة

بات العالم يعيش اليوم في ظل غريزة القسوة والبدائية ومسرح اللامعقول في شخصياته ودوافعه، والإيقاع الإلغائي للأخلاق والفضيلة والقيم النبيلة، بعد أن تجمد التسامح الروحي في وقائع فعلية ينعكس أثرها عليها انعكاساً سلبياً مدمراً من كل ناحية.
واتخذ ذلك طابعاً مضراً كل الضرر، نتيجة الكراهية والطائفية والإقصائية المرتبطة بمفهوم الماهية اللاعقلانية، والدوافع الطاغية ضد المبادئ الأخلاقية والسببية المجردة المحبطة والمنغمسة في مساحة تحدي القوة المؤدلجة على ضوء العِلل السابحة في عالم اللاشعور، والتعامي اللامتناهي الذي ينطوي على أنظمة السيمياء التي تمزج العالم وفق البناء السوسيولوجي، وما يقتضيه منطق التوتر على أساس الشعور العالي بأن العالم الغربي يقوم في الاستقلال المطلق للعقل في قفزات مربكة، واللامبالاة بالفائدة الاجتماعية والأخلاقية، دون أنماط تعبيرية قادرة على مجاورة القفزة الإنمائية السياسية والاقتصادية، التي تنطوي على القوة ضمن التعريف المعمق والواعي لحقيقة نهاية القِيم.
وأيضاً دون الأخذ في الاعتبار الوحدة الحسية أو الروحية، وظهور عالم جديد على إيقاعات البنيوية التكوينية للقوة، التي أصبحت سيدة الموقف من خلال امتلاك أسلحة الفناء والدمار الشامل، والحرب الجرثومية، والطائرات من دون طيار التي تدمر وتقتل عبر القارات بأجهزة التحكم عن بعد، التي تريح الآن الجنس البشري من عناء اللجوء إلى المواجهة المباشرة، كما هو الحال في صراعات الغابة، وحروب فجر التاريخ حتى أصبح الإنسان يمارس البطش، والعدوان وكأنه يعيش في زمن الكهوف ضمن قانون الغاب - الذي يرفع شعار البقاء للأقوى - ويمارس البدائية، والوحشية، والظمأ، والجوع، والخوف والتشرد، بينه وبين الحداثة مسافات الغموض والغابات والفراغ والجهل العميق وأحراش المستنقعات.
يعزف سيمفونية الألم الغارقة في الظلمة النابعة من روحانية مرعبة، لتزداد مساحة الفراغ، بل تجعل ذلك الإنسان يغلق عينيه، ويدخل إلى عالم اللاشعور، إلى أن يتلاشى تحت طبقات قِطع الفسيفساء المتراكمة عقيمة الأثر المتأتية من اللامبالاة بغياب قانون أخلاقي لمحاربة ثقافة العنف والإقصاء، ما أدى إلى هذا الصراع تحت وطأة السنين الصقيعة، وما نتج عن كوارث صنعها فكر الإنسان بدوافعه ونوازعه الشريرة، رغبة في القهر والاستيلاء، مستخدماً القوة المتمترسة بالدوافع، والمتشعبة بالإرادة الباطشة ضمن سيكولوجية غريزة العنف، وكأنه يعيش البدائية المتمثلة في الصيد والتعري في عالم مبهم، ومتمدد كتلك الغابة التي تضج بالصرخات والدمدمات والنداءات، التي شكلت البدايات الأولى، وامتداد التلاقي، والرباط بين رائحة الدم والشر للإنسان وأفعاله في جوف العراء واللامكان، فلا شيء قادر على استغراقه، أو استهلال عطاياه.
وهو أيضاً اللامرئي، وغير القادر على استيعاب القيم والسيكولوجيات أو الأيديولوجيات، ذلك أن مبدأ الحق قد هزم في موج التاريخ، وقدمت دماؤه على مذبح الألم والشقاء وغريزة النار التي تنتهي بالفناء، وانقطاع الأوتار وتدمير شجرة الحياة.
هذه الكينونة البشرية التائهة كانت وما زالت تمر بهزات عنيفة عديمة تمثل ذاتها المغيبة في اليأس، ومواجهة الموت حيناً آخر.
اليوم تتجدد الأسئلة بغير ما كانت عليه ليشيع لهو الوليد المشوه الذي يتجه إلى منطق التعطيل، وتضعضعه ذهنية التثبيط، وهو في أغوار مكوناتها البوهيمية الفهم، المدمرة لعالم يتشكل على تقاطع الخطوط، وتداخل المساحات، وغموض الكثافة، في تجاويف الظلمة وهجرة الموت إلى الرحيل الأبدي على شواطئ البحار في المنازح وراء غيوم اليأس في قوارب صيد متهالكة يخوضون فيها عباب البحر ويصارعون أمواجه المتلاطمة، يتناثرون كالرماد، وغرق الأطفال.. فارون من الموت، واحتراق المدن، رجالاً ونساء فوق الفوهات، وقذائف الأصفاد شبيهة بإنسان الغابة الذي وجد نفسه دون خيار في هول ظروف طبيعية لم يفهمها، ويصادم واقعه المعاش بنماذج أرض المجاز، ويبني فوقه مسكنه من هلام، ويشكل الأحداث من كل ما لم يقع، ويزج بغيره إلى الجحيم كطروادة الذي لم يقنع بافتراس الأبجدية، لتفضي في النهاية إلى مدلول واحد هو اغتصاب الأرض والشعب.. مغانم وفرائس سواء كانت إنساناً أم حيواناً، وصولاً إلى الإرهاب الذي هو من أعلى مراحل الأصولية المتطرفة وكراهية الحداثة، حيث ينتفي المنطق وتلغى العقلانية، وتختفي السببية تحطيماً وتفكيكاً لناموس معالم الكون وحدود سيميائياته، فالأصولي الإرهابي المتطرف لا يتقن شيئاً غير القتل، وممارسة التخلف وقنص المطلق وتراث الكهوف والبربرية، وسبي النساء، والعدمية التي تنفي الحياة وتشوهها، وتدمر ما حققه الإنسان من التكنولوجيا والثورة العلمية ومنها علم البيولوجيا، بل وتدمير كل ما هو جميل ونبيل في الحياة، فضلاً عن تهديده لكل حياة على ظهر كوكب الأرض.. مأخوذ بمركزية الثقافة الواحدة التاريخية التي عفا عليها الزمن، تقتسم آفاقها النسور واللقالق والغربان، حتى أعاد الإنسان العربي إلى أعنف النزعات البدائية والسلوكيات الهمجية.

صحيفة الخليج



شريط الأخبار