هل هي نهاية العصر الأمريكي؟

د. منار الشوربجي
من بين كل الإجراءات التي اتخذها ترامب فإن استهداف التعليم بكل مراحله يظل في تقديري الأكثر خطورة على مستقبل الولايات المتحدة، وسيكون نقطة البدء نحو نهاية التفوق الأمريكي أو ما صار يعرف مجازاً «بالقرن الأمريكي»، وهي نهاية ستحدث، لو استمر ذلك التوجه، بأسرع مما يتصور الكثيرون، فمنذ اللحظة الأولى كان واضحاً أن ترامب ينوي اختيار وزيرة لوزارة التعليم، تؤمن مثله بضرورة إلغاء تلك الوزارة أصلاً.

وقد تلا ذلك أن شرعت الإدارة في «تنقية المناهج الدراسية» لكل مراحل ما قبل التعليم الجامعي. وتسعى الإدارة لفرض هيمنتها على الجامعات ومراكز البحوث عبر تهديدها بتجميد الأموال الفيدرالية، التي تحصل عليها إذا رفضت الانصياع للإجراءات المطلوبة.

أكثر من ذلك باتت الولايات المتحدة تعيد النظر في تأشيرات الطلاب وأساتذة الجامعات والباحثين الأجانب المقيمين بالولايات المتحدة، وقامت بتجميد عشرات البرامج والمنح المخصصة للبحث العلمي في شتى المجالات باسم القضاء على إهدار المال، والقضاء على «الأجندات الأيديولوجية».

والحقيقة أن لكل من تلك الإجراءات أسبابها من وجهة نظر الإدارة، وهي كلها أسباب مرتبطة ارتباطاً وثيقاً، فإلغاء وزارة التعليم «الفيدرالية» هدف قديم لليمين الأمريكي، بالمناسبة، وترجع جذوره إلى منتصف الخمسينيات حين أُلغي الفصل العنصري في المدارس.

وقتها قاوم البيض «مناهضو الاختلاط» بكل شراسة حتى إنهم كانوا يقفون على بوابات المدارس ليمنعوا بأجسادهم دخول السود، وهو ما استدعى تدخل الحكومة الفيدرالية لتنفيذ حكم المحكمة العليا.

وقد تلا ذلك سلسلة من القوانين صدرت في أوج حركة الحقوق المدنية، وحظرت التمييز. ومرة أخرى قاوم البيض المتطرفون فكان لا بد من تدخل فيدرالي في عهد ليندون جونسون عبر سلسلة من البرامج، التي تبنتها وزارة التعليم لتنفيذ القوانين.

ومنذ ذلك الوقت صارت الحكومة «الفيدرالية» العدو الأول من وجهة نظر مناهضي تلك القرارات، ولأنه لم يعد ممكناً الاستخدام العلني للغة تنادي بتفوق البيض برزت لغة شفرية، يفهمها مؤيدوها، كالدعوة «لإعادة السلطات للولايات»، أو إلغاء وزارة التعليم.

وللسبب نفسه تستهدف إدارة ترامب المناهج الدراسية، فالمطلوب هو حذف كل ما له علاقة بما يسمى «التعددية والمساواة والدمج»، خصوصاً في مناهج التاريخ الأمريكي، إذ تطالب إدارة ترامب بحذف تاريخ الأمريكيين الأصليين، والسود، وأية إشارة للتمييز ضد غيرهم في مراحل تاريخية لاحقة، بدءاً بالإيرلنديين والإيطاليين، ومروراً بالألمان واليابانيين والصينيين، ووصولاً لذوي الأصول اللاتينية والأفريقية.

وقد غدت المكتبات المدرسية هدفاً هي الأخرى، إذ تم حظر مئات الكتب بما فيها روايات أديبة نوبل السوداء توني موريسون، والشاعرة السوداء الشهيرة مايا أنجيلو.

والجامعات طلب منها هي الأخرى التخلص من كل البرامج، التي قد تندرج تحت مسمى «التعددية والمساواة والدمج»، وقامت إدارة ترامب بتجميد الأموال التي تذهب للبحوث العلمية بالجامعات ومراكز البحوث إذا ما كانت هناك ولو شبهة في علاقة لها بذلك الهدف.

وموقف إدارة ترامب من مسألة الهجرة ومحاصرة الأجانب مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتلك الأجندة الأيديولوجية، فترامب كان قد أفصح بنفسه عن الهدف الحقيقي أثناء فترة رئاسته الأولى حين قال إنه لن يمنع الهجرة إذا كانت قادمة من النرويج، بعبارة أخرى فإن المشكلة الحقيقية هي أن المهاجرين الجدد ليسوا من البيض.

السؤال، ما علاقة كل ذلك بالتفوق الأمريكي أو ما يطلق عليه «القرن الأمريكي»؟ والإجابة عندي أن الأمر لا يقتصر على الثمن الفادح، الذي ستدفعه أمريكا حين لا تتاح الفرصة المتساوية لأبناء غير البيض، الذين برزت من بينهم دوماً نوابغ في شتى مجالات العلوم والآداب.

فجوهر الحيوية التي طالما تميزت بها الولايات المتحدة، وأسهمت في احتفاظها بتفوقها على العالم هو أنها فتحت أبوابها على مصراعيها للباحثين والعلماء من شتى بقاع الأرض فمولتهم، وأتاحت لهم المجال للنبوغ والإنتاج العلمي.

وقد كنت طفلة حين طلبت من والدتي أن تشرح لي معنى «استنزاف العقول» حين سمعت التعبير لأول مرة، وأدركت وقتها أن أمريكا تستحوذ على عقول العالم ونوابغه، واليوم تقوم إدارة ترامب بنفسها باستنزاف عكسي، إذا جاز التعبير، إذ هي تحول أمريكا لبلد طارد ليس فقط للعقول وإنما أيضاً للمهاجرين الذين كانوا مصدر تفوقها.



شريط الأخبار