الهاشمي نويرة
تراجعت فيما يبدو حدّة تداعيات الإجراءات الديوانية الأمريكية التي فاجأ بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العالم، ولم يفرّق فيها بين العدوّ والصديق، وهي إجراءات أثارت استهجاناً وردود فعل متفاوتة من كلّ الدول.ومع تراجع المواقف العلنية من جميع الأطراف، دخلت الولايات المتّحدة في مفاوضات خفيّة وغير معلنة في أغلبها مع عديد الدول التي تريد وضع حدّ لحرب تجارية ليست في صالح أيّ جهة وقد تؤدّي، لو استمرت، إلى أزمة اقتصادية كونية مدمّرة للجميع.
وكانت المراهنة الكبرى عند انطلاق هذه الأزمة، أن تفرض الحقيقة الاقتصادية منطقها على دونالد ترامب فتجبره على التراجع والانصياع مجدّداً لقوانين التجارة الدولية، وذلك لضمان استقرار وتوازن المعاملات التجارية والمالية في العالم.
ورغم أنّ الرئيس الأمريكي جمّد لحين قراره بالرفع في الرسوم الديوانية على المنتوجات المورّدة من الخارج، فإنّه أبقى في المقابل هذه الرسوم على الصين لكونها ردّت الفعل وفق مبدأ المعاملة بالمثل، وفرضت هي الأخرى رسوماً على بعض المنتوجات الأمريكية المورّدة.
ممّا دفع الإدارة الأمريكية إلى حَمْلِ الدول الأخرى على تضييق تجارتها مع الصين، وهي سياسة قد لا تؤتي ثمارها بالنظر إلى أنّ هذه الدول تضرّرت أيضاً جرّاء قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الترفيع في الرسوم الديوانية، فضلاً عن فقدان عامل الثقة في الإدارة الأمريكية التي راكمت التصرّفات غير المتوقّعة.
ويبدو أنّ الصراع الأمريكي الصيني المفتوح يخلق أرضية موضوعية للالتقاء بين بكين وباقي دول العالم، وخصوصاً أوروبا، رغم أنّ التضييقات على الواردات من الصين إلى الولايات المتّحدة قد يُغرق أسواق هذه الدول بالسلع الصينية وبأسعار لا تقبل أيّ مقارنة أو منافسة.
وتُضطرّ هذه الدول وبخاصّة دول الاتحاد الأوروبي إلى وضع عراقيل غير ديوانية على السلع الصينية، ومنها معايير الإنتاج ومدى احترام العوامل البيئية والاجتماعية وغيرها، وقد استطاعت أوروبا تحديداً فرض شروطها في الكثير من الأحيان على الصين؛ لأنّها سلكت طريق المفاوضات العقلانية على عكس سلوكيات الإدارة الأمريكية الصادمة.
ومعلوم أنّ دونالد ترامب وفريقه الحاكم وضعوا سياستهم وفق شعار «أمريكا أوّلاً وأخيراً» واختزلوا هدفهم الأسمى في ضرورة الوصول إلى الدرجة العليا من الرفاهية الاقتصادية، واعتبروا أنّ الوسيلة المثلى لتحقيق هذا الهدف هي القوّة،.
وأنّ جوهر الأخلاق هو النجاح في تحقيق الأهداف بصرف النظر عن المحتوى القيمي التقليدي الذي ميّز الغرب الليبرالي وأسّس لهيمنته على دول العالم، وأصبحت الديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون الدولي في مراتب ثانوية وحتّى هامشية.
ويرى الأنثروبولوجي وعالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود أنّ «تحلّل وتبخّر المنظومة القيمية الدينية في الولايات المتحدة وبريطانيا، تسبّب في اختفاء ما كان يشكّل قوّة الغرب وخصوصيته».
ولا شكّ أنّ التحلّل الديني في الغرب الليبرالي عموماً أدّى بالتدريج إلى تغييب المنظومة الدينية الشاملة والقيم الإيجابية الجامعة، والتي فسحت المجال لديناميكيات دينية فرعية ومتشتّتة وأغلبها مفتوح على الفكر المتشدّد، ما أدّى إلى تنامي القوميات المتطرفة، والتي ضيّقت من مجالات التعاون بين الدول والمجتمعات وحتّى لم تعد ترى منه فائدة.
وإنّ فكر وسياسة ترامب، كما أنّ «العقل» الذي يتحكّم في مجمل المتغيرات الجيوسياسية في عدد من دول الغرب الليبرالي الأنغلوسكسونية تحديداً، يستند بالكامل إلى خلفية القطع التامّ مع منظومة اقتصادية وتنموية تقوم على مبدأ الانضباط إلى النسق القيمي الذي وضعت حدوده القصوى المنظومة الدينية.
وهو ما أدّى إلى تفكّك مجتمعات هذه الدول، وإلى ظهور أنماط فكرية فائقة الحدّة في سلوكها الداخلي ومفرطة العجرفة والتسلّط في سلوكها مع باقي الدول.
وإنّ أخطر ما يهدّد استقرار الدول والمجتمعات والسلم في العالم هو غياب منظومة قيمية جامعة وقادرة على كبح جماح أيّ مغامرة قد تودي بما بلغته البشرية من وعي بضرورة العمل المشترك بين الأمم والشعوب، وفي هذا الصدد يجد كلام أحمد شوقي:
«إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإنْ هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا» معناه ومغزاه.