فلسفة الرموز التراثية الإماراتية

د. موزة غباش
لطالما كانت الرموز جزءاً من الوعي الجمعي لأي مجتمع، فهي أشكال أو علامات تجسد الهوية الثقافية، التي تتوارثها الأجيال، وتحمل معها معاني، قد تتغير بتغير الظروف التاريخية والاجتماعية. وفي التراث الإماراتي لعبت الرموز دوراً جوهرياً في تشكيل الذاكرة الثقافية، بدءاً من كل الأدوات، التي كانت تستخدم داخل المنزل والأزياء كالبراقع والخناجر، مروراً بالنقوش الهندسية في العمارة، ووصولاً إلى الأعشاب الطبية المستخدمة في الطب الشعبي.

هذه الرموز ومع أنها عناصر مادية كانت تُستخدم في الحياة اليومية للأمة الإماراتية عبر التاريخ، إلا أنها أيضاً تعبير حقيقي عن قيم ومعتقدات، وممارسات اجتماعية عميقة. ومع تطور الزمن بدأت بعض هذه الرموز تفقد معانيها الأصلية تدريجياً، بينما اكتسب بعضها معاني جديدة، فرضتها التحولات الاقتصادية والتقنية والاجتماعية، التي شهدها العالم أجمع، والمجتمع الإماراتي.

يناقش الفيلسوف الألماني «إرنست كاسيرر» في كتابه «فلسفة الأشكال الرمزية» كيف أن الإنسان كائن رمزي بطبيعته، فهو لا يتعامل مع الأشياء كما هي، بل يحمّلها معاني مستمدة من بيئته الثقافية، فالبرقع الذي كان رمزاً للحشمة والمكانة الاجتماعية أصبح اليوم عند البعض جزءاً من عروض الأزياء أو عنصراً يستخدم في التصوير الفني، حيث تغيرت دلالته من رمز اجتماعي إلى قطعة فنية، تستلهم الماضي من دون أن تحمله بنفس المعاني.

ويمكن ملاحظة ذلك في تراجع استخدام البرقع بين الأجيال الشابة، حيث أصبح عند البعض أيضاً يُرتدى في المناسبات التقليدية فقط، بينما كانت النساء في الماضي لا يخرجن من دونه أبداً.

أما «رولان بارت» في كتابه «أسطوريات» فيشير إلى أن الرموز عندما تفقد دلالاتها الأصلية تتحول إلى أساطير حديثة، أي تصبح مجرد مظاهر سطحية تُستخدم في الإعلانات، والترويج التجاري من دون أن تعكس معانيها الثقافية العميقة.

ينطبق هذا التحليل على بعض الأعشاب الطبية الإماراتية مثل «الحرمل» و«السنا»، اللتين كانتا جزءاً أساسياً من الطب الشعبي في الإمارات، حيث لم يكن الناس يعتمدون على الأدوية الكيميائية كما هو الحال اليوم. كان لكل عشبة استخدام محدد مرتبط بتجربة مجتمعية طويلة الأمد، لكن في الوقت الحالي تُباع هذه الأعشاب في الأسواق الكبرى، وتُصدّر إلى الخارج تحت مسميات مختلفة، وغالباً ما تُروَّج باعتبارها منتجات طبيعية من دون أي ذكر لتراثها العلاجي المتجذر في الثقافة الإماراتية.

وإذا كان «جاك دريدا» في كتابه «الكتابة والاختلاف» يرى أن المعاني ليست ثابتة بل تتغير وفقاً للسياقات المختلفة، فإن هذا ينطبق بشكل واضح على رموز مثل النقوش الهندسية، التي كانت تُستخدم في الزخارف المعمارية الإماراتية.

هذه النقوش، التي كانت تحمل معاني روحانية أو اجتماعية، أصبحت اليوم، عند الكثيرين، تُستخدم للزينة من دون إدراك لمعناها الحقيقي، فقد كانت بعض الزخارف الهندسية لأغراض هندسة إدخال الهواء كالبراجيل أو تُستخدم لحماية المنازل من الحسد أو تعبيراً عن انتماء اجتماعي، بينما أصبح استخدامها اليوم مجرد جانب جمالي في تصاميم الفنادق والمباني الحديثة.

الطب الشعبي الإماراتي يقدم مثالاً آخر لهذا التحول في الرمزية، فبينما تُستخدم الأعشاب الطبية في العديد من الثقافات حول العالم، إلا أن بعض الأعشاب ارتبطت بالإمارات تحديداً، بسبب ظهورها في البيئة الإماراتية فقط أو بسبب التسمية المحلية أو طريقة الاستخدام، فعلى سبيل المثال، «خاز باز (النكاف)» و«بوبريقع» ونبات «أشخر» و«عشرج» و«سركة صالح» و«اليعدة (الجعدة)» وغيرها المئات من النباتات أو التسميات أو طرق العلاج، التي كانت تستخدم بطرق محددة، التي كانت محفورة في الذاكرة الشعبية، وأصبحت في مرحلة ما جزءاً من الهوية الإماراتية، لكن التغييرات الكثيرة، ومع تطور الطب الحديث أسهم كثيراً في تراجع مكانتها العلاجية، وبالتالي التأثير على مكانتها كونها رموزاً تراثية أصيلة، فتعرض بعضها للزوال أو الاندثار والبعض الآخر مهدد بذلك، ولا نعلم إن كنا قادرين على اللحاق بها وتسجيلها وتوثيقها، والاحتفاء بها ونقلها للأجيال القادمة.

اختلف الفلاسفة وخبراء التراث حول كيفية الحفاظ على الرموز التراثية من دون أن تتحول إلى مجرد قطع متحفية أو ديكور فاقد للمعنى، فمنهم من يرى ضرورة إحياء معاني هذه الرموز من خلال إعادة تفسيرها في السياقات الحديثة، ومنهم من يرى دمجها في الحياة اليومية بطرق تحافظ على هويتها الأصلية، ولكن من وجهة نظري علينا أولاً، وقبل أن نختلف، أن نتفق على أهمية التوثيق، والتوظيف الشامل للرموز التراثية، بكل الوسائل الممكنة، أي اتخاذ أعلى درجات تدابير الصون لإبقاء التراث حياً من دون أن يفقد جوهره، فكما أن المجتمعات قادرة على إنتاج معانٍ جديدة لرموزها، فإنها أيضاً قادرة على استعادة قيمتها الأصلية إذا وُجدت الإرادة الثقافية لذلك.



شريط الأخبار