فلسفة المناعة الثقافية الإماراتية في مواجهة التحديات

د. موزة غباش
الهوية الثقافية الإماراتية قوة متجددة وحيوية تتغذى من تراثنا العريق الأصيل، فهي متجذرة في الرؤية الفلسفية العميقة وضع أساسها المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه. والتي جعلت من الهوية الإماراتية تشكل «جهاز مناعة جماعياً» قادراً على الصمود في وجه التغيرات المتسارعة. وهذه المناعة الثقافية، التي تُبنى على قيم التسامح والانفتاح والحفاظ على التراث، تُظهر كيف يمكن للهوية أن تصبح أداة فعالة لحماية المجتمعات وتعزيز تماسكها.

رؤية الشيخ زايد للفلسفة الثقافية كانت تعتمد على مجموعة من المبادئ التي رأيناها، جميعاً، كيف تبني الاتحاد العظيم، في كل تشريع أو قانون أو وضع أساس لوزارة أو مؤسسة أو تعيين، في كل لقاء أو اجتماع للشيخ زايد والشيخ راشد، رحمهما الله، كنا نلمس تلك الفلسفة التي تربط الماضي والحاضر الذي نعيشه والمستقبل الذي نتأمله لأولادنا وأحفادنا، كالتركيز على العلاقات الأسرية، والتمسك بالأخلاق الحميدة، وعلى كل القيم والسلوكيات المجتمعية التي تميز مجتمع الإمارات بمختلف شرائحه السكانية، وربطها جميعاً بنسيج الهوية الثقافية الراسخة، وعلى سبيل المثال الذي يعرفه الجميع: جعل التسامح الذي غرسه الشيخ زايد في قلب الهوية الإماراتية من الإمارات نموذجاً عالمياً للتعايش، فأصبحت التنوعات الثقافية إضافة نوعية تُثري المشهد الاجتماعي.

فأسهم هذا التعايش في بناء جهاز مناعة ثقافي متين يحمي المجتمع من الانعزال الفكري أو الانصهار السلبي، ويجعله قادراً على التفاعل مع العالم دون أن يفقد جوهره.

بالطبع فإن المحافظة على تعزيز هذه المناعة الثقافية جعلت من أهمية حفظ التراث الإماراتي لا تقتصر فقط على الجوانب المحلية، بل تمتد إلى الساحة العالمية. ونرى الآن كيف تبذل وزارة الثقافة، من خلال إدارة التراث الثقافي، وبالتعاون مع اللجنة الفنية لخبراء التراث غير المادي، جهوداً جبارة لتسجيل عناصر التراث الإماراتي في السجل الوطني الشامل، كخطوة حيوية لتوثيق الهوية الثقافية وتعزيز الوعي بها. وأيضاً تُبذل جهود كبيرة لضمان تسجيل عناصر التراث غير المادي في قوائم اليونسكو، بما يليق بالقيمة التاريخية والرمزية لهذه العناصر.

كنت أقرأ الأسبوع الماضي، مرة أخرى، كتاب «الاستشراق» للمفكر إدوارد سعيد، ولاحظت أنه انتقد بعمق الطريقة التي صوّر بها الغرب الثقافات الشرقية، حيث اعتبر هذا التحيز أداة للهيمنة السياسية والثقافية.

لذلك، وحسب دراساتي وأبحاثي السابقة، أعتقد أن الأمن الثقافي لا يتعلق فقط بحماية التراث من الاندثار، بل يشمل استعادة الرواية الذاتية والقدرة على تمثيل الذات أمام العالم. دولة الإمارات، من خلال جهودها في تسجيل التراث الوطني وإبرازه في المحافل الدولية، تعيد تأكيد هويتها الثقافية وتعزز مكانتها الحضارية.

اليوم، الأمن الثقافي أصبح جزءاً أساسياً من النقاش الأكاديمي والسياسي. الإمارات أثبتت أن حماية التراث والهوية لا تعني الانغلاق، بل الانفتاح الواعي الذي يجعل من التراث أداة حية للتواصل الحضاري. وحيث إن التعليم يشكل محوراً أساسياً في تعزيز المناعة الثقافية الإماراتية، لذلك يجب أن نتذكر دائماً أن المناهج الدراسية يجب أن تشمل دروساً عن التراث والتاريخ الإماراتي لتسهم بقوة في بناء جيل واعٍ بجذوره. وربط الأجيال الجديدة بموروث أجدادهم وتجعل التراث جزءاً من حياتهم اليومية.

لذلك أرى أن زيادة المسؤولية والواجبات على المؤسسات والخبراء والأفراد لحماية وحفظ وصون وتسجيل التراث سيعزز قطعاً في الأمن الثقافي، ليس فقط على مستوى القيم، بل أيضاً من خلال تعزيز الروابط الاجتماعية وتقوية الشعور بالانتماء.

وإن تسجيل التراث محلياً ودولياً، بالاستناد إلى «فلسفة زايد التراثية» باعتبار الهوية الثقافية عنصراً أساسياً في بناء الحاضر والمستقبل. فإن كل عنصر من عناصر التراث المسجلة، سواء كانت الأهازيج البحرية أو فنون الحرف التقليدية، وغيرها سيمثل دليلاً آخر على قوة الهوية الإماراتية ومرونتها.

الحمد لله، أن رؤية الشيخ زايد، بفضل حكمة القيادة الرشيدة لدولة الإمارات، كانت ولا تزال فلسفة مُلهمة تضع الهوية والثقافة في قلب المشروع الوطني الإماراتي، وأن الجهود المبذولة لحفظ التراث وتسجيله دولياً في اليونسكو إنما تعكس التزام الإمارات بحماية هويتها وتعزيزها، وتقوية جهاز مناعتها الثقافي المتين، لحماية المجتمع من التغيرات السلبية، وتعزيز مكانته بين الأمم، وتقديم الهوية الثقافية الإماراتية كمصدر قوة واستدامة، وتجعل من التراث منارة تُضيء دروب المستقبل.



شريط الأخبار