المهلب وابن ماجد .. رموز التراث الحي

د. موزة غباش
في اجتماعنا الأخير، ضمن اللجنة الفنية لخبراء التراث غير المادي – وزارة الثقافة، أثار الصديق د. عبد العزيز المسلم، رئيس معهد الشارقة للتراث، قضية يتقاطع فيها التاريخ مع الجغرافيا، كذلك السياسة مع الفلسفة: كيف يمكننا جمع وتسجيل كل الشخصيات التاريخية التي ولدت على أرض الإمارات باعتبارها جزءاً من تراثنا الوطني؟ حيث برزت أسماء مثل المهلب بن أبي صفرة، القائد العسكري الذي يعد من أعظم الشخصيات في التاريخ الإسلامي، والبحار أحمد بن ماجد، رائد الملاحة البحرية العربية.

إن النظر إلى هذه الشخصيات من زاوية فلسفة التراث يكشف عن أبعاد أعمق مما يمكن رؤيته في الإطار الجغرافي أو الزمني. فهذه الأرض، التي أصبحت دولة الإمارات في 1971، كانت موجودة بشخصياتها، بحضارتها، وبذاكرتها قبل أن ترسم الحدود الجغرافية وتعاد صياغة الهويات السياسية.

ولعل هذا هو جوهر النقاش الذي يدفعنا إلى التأمل: هل التراث هو فقط ما نتفق على الاحتفاظ به داخل حدودنا السياسية، أم أنه ذلك الامتداد الذي يعبر الجغرافيا والزمن ليشكل روح الأمة وذاكرتها؟

المهلب بن أبي صفرة، الذي انطلقت جذوره من دبا، هذه المدينة التي عرفت منذ الأزل كمركز حضاري وتجاري، كان مثالاً حياً على قدرة هذه الأرض على إنتاج العقول العظيمة. في ذلك الزمن، لم تكن التقسيمات الجغرافية تعني الكثير؛ كانت دبا جزءاً من نسيج حضاري ممتد.

لكن ما يهمنا اليوم هو الفكرة التي يمثلها المهلب: روح القيادة، الشجاعة، والقدرة على مواجهة التحديات. هذه الروح، التي هي جزء من موروثنا الثقافي، لا تزال تنبض في كل من يسعى اليوم إلى بناء مستقبل الإمارات.

أحمد بن ماجد، أسد البحار، الذي ولد في جلفار (رأس الخيمة حالياً)، يجسد بعداً آخر من فلسفة التراث. إنه رمز للإبداع والتفوق العلمي الذي يتجاوز الحدود. موروثه في معرفة البحار والخرائط البحرية، هو انعكاس لقدرة الإنسان الإماراتي على فهم العالم من حوله، واستثمار المعرفة لخدمة الإنسانية. جلفار، التي كانت في يوم ما ميناءً يعج بالحياة، تخبرنا اليوم أن التراث يمتد إلى القيم التي نعيد من خلالها تعريف علاقتنا بالمكان.

هذا النقاش يحمل في طياته مسؤولية كبيرة.

فإذا كنا نتفق جميعاً أن الشخصيات التاريخية التي ولدت على هذه الأرض جزء من تراثنا، فهذا يعني أن علينا أن نعيد التفكير في الطريقة التي نحافظ بها على هذا التراث، ونعيد تعريف علاقتنا به.

فالنظر الآن إلى قرى ومدن الإمارات التي تحمل عبق التاريخ وتحكي قصص الأسلاف والأجداد، تعكس عمق حضارتنا وتجذرها في الزمان. ففي دبي مثلاً، تكشف آثار مدينة جميرا عن مستوطنة تعود إلى العصر العباسي، مما يشير إلى دورها المحوري كمركز حضاري وتجاري.

كما أن موقع ساروق الحديد في دبي يعد من أهم المواقع المكتشفة في السنوات الأخيرة، حيث يعود تاريخه إلى بداية العصر الحديدي، مشكلاً نافذة على حياة صناعية وتجارية متقدمة. وفي أبوظبي، فإن جزيرة أم النار، التي تعود إلى العصر البرونزي (2600 - 2000 قبل الميلاد)، تكشف عن مستوطنة إنسانية كبيرة ومقابر حجرية تؤكد عمق التجربة الإنسانية في تلك المنطقة.

أما في الشارقة، فتعد مويلح ومليحة من أبرز المواقع الأثرية؛ الأولى يعود تاريخها إلى أكثر من 3000 سنة كمركز للتجارة والزراعة، والثانية تضم آثاراً تمتد من العصر الحديدي حتى الفترة الرومانية، وهي شاهدة على مراحل متعددة من التطور البشري.

وفي أم القيوين، نجد جزيرة الأكعاب، التي يعود تاريخها إلى العصور الحجرية قبل حوالي 5000 عام، وفي الفجيرة، يعد مسجد البدية، أحد أقدم المساجد في الدولة، شاهداً على التواصل الحضاري الإسلامي في المنطقة منذ القرن الخامس عشر.

ولا يمكن أن نغفل حصن الحليلة في رأس الخيمة، الذي كان مركزاً للتجارة والحماية منذ العصر الحجري الحديث، وقلعة الفهيدي في دبي، التي تعكس استمرارية الاستيطان البشري منذ أزمنة سحيقة، وجزيرة مروح في أبوظبي، التي يعود تاريخها إلى 7500 سنة، حيث عثر فيها على هياكل عظمية تسجل حضوراً بشرياً مبكراً.

كل هذه القرى والمدن الإماراتية وغيرها الكثير تحمل في طياتها قصصاً لا تنتهي عن حضارات وأمم أسلافنا الذين سكنوا هذه الأرض، فورثت لنا قيماً ومعارف تشكل جزءاً أساسياً من هويتنا الوطنية. وكل شخصية عاشت على هذه الأرض، سواء عرفها التاريخ واستدل عليها أم بقيت انتظار الحفر والبحث، تمثل جزءاً حيوياً من هذا الموروث الذي نفتخر به.

إنها دعوة صادقة للباحثين والمؤرخين للغوص في أعماق تاريخ هذه القرى والمدن، لاكتشاف كل ما يمكن أن يضيف إلى فهمنا لتراثنا الأصيل، ويبرز المزيد من الشخصيات التي ساهمت في صياغة هويتنا الثقافية والإنسانية عبر التاريخ.



شريط الأخبار