الـربط بيـن الأعمــال يصنع المستقبل

الامارات 7 - يتوقع سلطان أحمد بن سليّم أن تشعل الممرات اللوجستية المتمركزة حول الموانئ شرارة ثورة حقيقية في التجارة العالمية ..

...

يمهّد التوجّه العالمي نحو إنشاء ممرات لوجستية متكاملة تتمركز في الموانئ لبزوغ عصر جديد من التبادل التجاري المتسم باليسر والإستدامة
لو أعدنا صياغة موضوع هذا الكتاب ليصبح «تواصُل الأعمال لصنع مستقبل مستدام للأجيال المقبلة» فلن نجانب الصواب. إذ أعتقد أن هذا ما توفره ممرات الإمداد اللوجستية المتمركزة في الموانئ، بطريقة تحقق الاستدامة للتجارة والأعمال والبيئة على حد سواء.

الترابط المعقد لشبكات الإمداد الحديثة يؤدي إلى ربط المناطق النائية التي تخدمها الموانئ وليس على الموانئ فقط. ويتحدث الجميع عن التكامل والاستدامة حيث يُعد كلاهما ضرورياً بالنظر إلى طبيعة الدور الطويل الأمد لهذا القطاع في المجتمعات التي نعمل فيها.

لدينا اليوم منظومة من الشركاء والمساهمين في البر والبحر، تشمل حاضنات الأعمال وتجار الجملة والتجزئة، فضلاً عن الحكومات. وقد نمت هذه المنظومة لمواجهة الحجم الهائل للتجارة البحرية العالمية، حيث توجد أكثر من 100 ألف سفينة تجارية تنقل نحو 90 في المئة من مجمل التبادل التجاري العالمي، ووصل عدد الحاويات على مستوى العالم إلى حوالي 590 مليون حاوية قياسية (بطول 20 قدماً) في العام 2011، فضلاً عن شحنات البضائع العامة التي تنقل بحراً دون حاويات.

ولا يعد مصطلح الإمدادات اللوجستية المتمركزة في الموانئ حديثاً، شأنه شأن الصناعة ذاتها، فهو موجود منذ عشرات السنين. ويمكن تعريفه بأنه مركز توزيع يقع في الميناء بدلاً من اليابسة، حيث يُقرِّب بين الشركات والأسواق التي تخدمها ويقلل مسافات الشحن. لكن الأهمية الاقتصادية لإنشاء مراكز توزيع في الموانئ أو قريباً منها أصبحت اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، فهي تلغي الحاجة لنقل الحاويات إلى مستودعات بعيدة ثم توزيعها من هناك إلى الأسواق، وهو الأمر الذي قد يضاعف مسافة النقل ويزيد عدد عمليات تبادل البضائع وما يترتب عليها من زيادة في التكاليف والمخاطر الأمنية.

ويمكن لأي خطوة من شأنها تقليص مسافة النقل في سلسلة الإمداد، التي تبدأ عادة من آسيا وتنتهي بعيداً عن مصدرها، أن توفر الوقت والتكلفة بالنسبة للشركة والمستهلك على حدٍّ سواء، وتساهم في الوقت ذاته في الحفاظ على البيئة بتخفيف الازدحام على الطرق والحدِّ من الانبعاثات الكربونية.

وهكذا فإن ممرات الإمداد المتمركزة في الموانئ ستزداد انتشاراً مع كل تلك الفوائد التجارية والبيئية الجليّة، حيث تسمح بتوفير المال وتسهيل جرد البضائع، وخفض النفقات وتحسين زمن وصول البضائع الحيوية إلى السوق، فضلاً عن تخفيض تكاليف نقلها، ورفع الكفاءة مع زيادة سرعة عمليات المعالجة. إضافة إلى ذلك، فإنها تسمح بتقليل مسافات النقل البري، ما يحسّن فرص إيجاد حلول لحركة المرور على الطرق. كما تتحقق أهداف المحافظة على البيئة عبر تخفيف الازدحام على الطرق وتقليل الانبعاثات والحدِّ من التلوث البيئي.

وتشير التوجهات العالمية إلى أهمية الشراكات والعلاقات مع قطاع الأعمال. ويشدد المراقبون في هذا القطاع على ضرورة إعادة التفكير في وظيفة الميناء وحدوده وتشغيله، وإدراك الدور المتعاظم الذي تلعبه الموانئ في النمو الاقتصادي ومستوى تنافسية الدول. كما نشهد التوسع المستمر للشراكات بين الحكومات والشركات المشغلة من القطاع الخاص، حيث تحتفظ الحكومة بملكية الميناء، وتحاول الاستفادة من الخبرات الدولية في تشغيله. وقد أدى ذلك إلى ظهور شركات عالمية لتشغيل الموانئ، فضلاً عن زيادة المنافسة بين الموانئ. ونشهد اليوم تراجع الحواجز بين مزودي خدمات الشحن والعملاء والهيئات الحكومية، إذ بدأت تتوضح فوائد إدماج سلسلة التوريد لتصبح شبكة توصيل متكاملة وسريعة تعمل بسلاسة.

إن السبيل الوحيد للامتياز في عمل أي سلسلة التوريد عالمية معقدة يكمن في قدرات العاملين فيها، فهم دوماً أهم الأصول التي تملكها أية مؤسسة. ولن نصل إلى الاستدامة في عمليات الشحن والإمدادات العالمية إلا بالتنسيق والتواصل بين الأشخاص ليعملوا معاً ككيان واحد من أجل ضمان الكفاءة في جميع أجزاء سلسلة الإمداد. وتجمع ممرات الإمداد المتكاملة بين أفراد من مؤسسات مختلفة، حيث تُمكِّنهم من ابتكار الحلول وتجاوز المشاكل التي تواجه الأطر التقليدية. ويوفر العمل الجماعي مجموعة متكاملة من المهارات تسمح بحل المشكلات التي لا يمكن لمؤسسة أن تحلها منفردة.

توجد نماذج حول العالم تعكس التوجه نحو الحلول المتمركزة في الموانئ في كلٍّ من الدول المتقدمة والنامية. ويعد مشروع «بوابة لندن» الذي تنفذه شركة موانئ دبي العالمية نموذجاً مثالياً حيث يتضمن ممرات تصل إلى المناطق التي يخدمها الميناء في المملكة المتحدة. ويقع الميناء الجديد الذي يتسع لـنحو 3.5 مليون حاوية في عرض البحر شرق لندن على الضفة الشمالية لنهر التايمز، ومن المقرر افتتاحه في الربع الأخير من العام 2013. ويعد الميناء بتغيير مشهد عمليات الإمداد في الجنوب الشرقي للمملكة المتحدة، حيث توجد أكبر الأسواق الاستهلاكية. يقع الميناء على مقربة من مشروع تطوير أكبر مجمّع لوجستي متصل بالسكك الحديدية في أوروبا، والذي يمتد على مساحة تقدر بـ 9.25 مليون قدم مربع، ويعيش 15 مليون مستهلك على مسافة لا تتجاوز 80 كيلومتراً من الموقع. وتدخل أغلبية واردات أعالي البحار إلى المملكة المتحدة عن طريق موانئ الجنوب الشرقي، إلا أن 10 في المئة فقط من المستودعات في بريطانيا توجد في هذه المنطقة. ويساعد وجود تلك المستودعات عند منطقة دخول البضائع في تخفيض تكاليف سلسلة التوريد بصورة كبيرة.

بعيداً عن بريطانيا، من المتوقع حدوث تحولات كبيرة في أنماط الإمدادات اللوجستية عند افتتاح قناة بنما الموسعة، حيث بدأت الموانئ الإقليمية المجاورة في إنشاء محطات جديدة. ويتم توفير أراضٍ لتطوير المشاريع لتشجيع الإمدادات المتمركزة في الموانئ. وفضلاً عن مجمّعات الإمدادات اللوجستية، تضيف الموانئ خدمات «ما وراء البوابة» استجابة لطلب خطوط وشركات الشحن التي تسعى إلى رفع كفاءة سلسلة التوريد بجميع أجزائها لتحسين قدرتها التنافسية في السوق. ونحن في شركة موانئ دبي العالمية، على سبيل المثال، استثمرنا لإنشاء خط حديدي لنقل الحاويات من أجل تحسين الربط بين الموانئ والمناطق التي تخدمها في شبه القارة الهندية. ونقوم بتشغيل محطة لحاويات الشحن خارج بوابات الميناء في موندرا، كما استثمرنا في إنشاء وتشغيل مستودعات محلية، في شمال أوروبا وفانكوفر.

يقتدي مشروع «بوابة لندن» بنموذج أهم موانئنا، وهو ميناء جبل علي في دبي، والذي يجسّد بشكل كامل نموذج الإمداد المتكامل المتمركز في الموانئ، وهو النموذج الذي نكرره كلما سنحت الفرصة لذلك ضمن مشاريعنا التي تضم أكثر من 60 محطة بحرية. يعتبر النقل متعدد الوسائل السمة السائدة في دبي. وبفضل ممر دبي اللوجستي DLC الذي يربط ميناء جبل علي بمجمّع المنطقة الحرة، ومطار دبي وورلد سنترال الجديد، تكون الإمارة قد جمعت المؤسسات الحكومية وغير الحكومية معاً من أجل تعزيز التجارة والحفاظ على مكانة دبي الرائدة في مجال الإمداد في المنطقة.

ويربط «ممر دبي اللوجستي» بين مسارات النقل البحري والبري والجوي للمرة الأولى في الشرق الأوسط، وهو يمتد على مساحة تقدر بحوالي 200 كيلومتر مربع، حيث يربط بشكل متكامل أكثر من 6,500 شركة ويزود شركات الشحن برابط تقل مدة عبوره عن ثلاثين دقيقة بين الميناء والمطار. وبصفته جسراً بحرياً وجوياً وبرياً يوفر حلول النقل المتعدد، فإنه يعدّ مشروعاً ضخماً يعزز التجارة غير النفطية لإمارة دبي، كما يرسخ مكانة دبي كمركز تتلاقى فيه مسارات التجارة العالمية. وتتحقق كفاءة سلسلة التوريد بفضل وجود ودعم منطقة جمارك موحدة للميناء والمطار تتيح نقل البضائع بينهما بحرية. وتجمع هذه المبادرة الطموحة بين المؤسسات والأفراد والعمليات والخدمات والمعايير والأنظمة لتشكل أكبر وأفضل مركز للإمدادات في المنطقة.

وقد ترسخ ذلك أكثر عن طريق بوابة «دبي التجارية» الإلكترونية، وهي مؤسسة فريدة ومتكاملة تجمع الكثير من الوظائف في مكان واحد لتسهيل الأمور على الشركات. ويسير العمل بصورة أسرع وأسهل عن طريق توفير خدمات إلكترونية متكاملة تربط بين مجموعة واسعة من مزودي الخدمات التجارية والإمدادات والهيئات الحكومية الرئيسية (بما في ذلك هيئة جمارك دبي) عبر نافذة إلكترونية واحدة تلغي البيروقراطية وتسرّع وتيرة الأعمال. وتتضمن الخدمات المقدمة منصة إلكترونية للتجار وخطوط الشحن والوكلاء ووكلاء التخليص الجمركي والتوزيع والنقل وحاملي تراخيص المنطقة الحرة وغيرهم.

ترسّخ كل هذه العوامل مكانة دبي كأفضل قاعدة للتبادل التجاري عبر الحدود بفضل الموقع الجغرافي الفريد، والبنية التحتية الممتازة، والعمليات المتسقة والسلسة بين القطاع الخاص والهيئات الحكومية. وقد تم الاعتراف بمكانة دبي دولياً، حيث تحتل حالياً المركز الأول من حيث تسهيل التجارة في المنطقة، كما تحتل المركز الخامس في مجال «التجارة عبر الحدود» وفقاً لتقرير Doing Business الصادر عن البنك الدولي لعام 2013.

لقد أضحى العالم اليوم قرية واحدة، وتتطلب ضخامة حجم التجارة العالمية وتعقيداتها العمل بكفاءة، وهو ما توفره ممرات الإمداد المتمركزة في الموانئ، والتي تساعد على توحيد سلسلة الإمداد وتشجع النقل عبر وسائل متعددة، وتدعم الاستدامة والتبادل التجاري والأعمال، وفي الوقت ذاته، تزيل العقبات التي تواجه التبادل التجاري، وذلك يصب في مصلحة الجميع على المدى الطويل. ويسهم تعزيز التجارة بين الدول في إزالة الحواجز بين الأفراد وتقريب الثقافات وتعزيز التفاهم، كما أنها تساعد بصورة غير مباشرة في خلق فرص العمل وكسب العيش، مع إشراك المجتمعات ومنحها الهدف والأمل. وختاماً، فإن لكل منا دوراً يلعبه في إنشاء الروابط وتعزيزها لكي يتحقق هذا المبتغى.