د. منار الشوربجي
ترحيل الولايات المتحدة لمئات الفنزويليين إلى بلادهم أو لسجن بالسلفادور الشهر الماضي، بدعوى عضويتهم في عصابات إجرامية واحد من قرارات ترامب تنفيذاً لتعهده الانتخابي بترحيل المهاجرين غير الشرعيين.
. لكن الحملة هي إحدى تجليات الموجة الأمريكية الحالية من العداء للأجانب، والتي باتت تستهدف المهاجرين الشرعيين بل والسياح وأصحاب الإقامات الدائمة من الأوروبيين.
والعداء للأجانب ظاهرة ذات تاريخ طويل في المجتمع الأمريكي، فلا تكاد جذوتها تخبو حتى تعود لتطفو على السطح.. والموجة الحالية بدأت منذ أعوام ولكنها ازدادت قوة مع حملة ترامب الانتخابية في 2015..
وقتها قرأ الرجل بدقة أفكار التيار الذي يعادي الأجانب وعبر عنها خصوصاً فيما يتعلق بالمهاجرين عبر الحدود مع المكسيك، وتعبيره عنها ثم وصوله للسلطة منحها مزيداً من الزخم كونها صارت تأتي من أعلى منصب سياسي في البلاد.
وأوضحت التقارير الصحفية أن عدداً من الفنزويليين الذين تم ترحيلهم لسجن السلفادور لا علاقة لهم بعالم الجريمة بل وبعضهم دخل الولايات المتحدة بشكل شرعي، لكن الأمر لا يقتصر هذه المرة على أمريكا اللاتينية، إذ طال الأوروبيين أيضاً.
ونتيجة لذلك، لم تصبح فنزويلا وحدها التي أطلقت تحذيراتها الرسمية حين طالب برلمانها المواطنين بعدم السفر للولايات المتحدة، فوزارات الخارجية في دول أوروبية نشرت بيانات تحذر مواطنيها المسافرين للولايات المتحدة.
فعلى سبيل المثال، نشرت الخارجية الألمانية تحديثاً لإرشادات السفر أكدت فيه أن الحصول على التأشيرة لا يضمن دخول الولايات المتحدة، إذ لسلطات الحدود الأمريكية الكلمة الفصل.
وأضافت أن أية معلومات مغلوطة عن الغرض من الزيارة أو الوجود على الأرض الأمريكية ولو لفترة وجيزة للغاية بعد انتهاء مدة التأشيرة قد يؤدي للترحيل أو الاعتقال.
وقد جاء ذلك التحديث نتيجة اعتقال ثلاثة أشخاص يحملون الجنسية الألمانية بعدما رفضت السلطات الأمريكية دخولهم البلاد بتأشيرات سليمة.. وكان من بين الثلاثة ألماني يقيم في الولايات المتحدة إقامة دائمة بشكل قانوني، بينما قالت والدة الثاني إنه خضع لعنف السلطات وهو رهن الاعتقال.
وقد نشرت بريطانيا تحذيراً مماثلاً، مؤكدة أنها تقدم الدعم اللازم لمواطنة بريطانية تعرضت للاعتقال مؤخراً. وحذرت من عدم الامتثال لأية قواعد جديدة قد تضيفها مستقبلاً سلطات الحدود الأمريكية. أما كندا، فقال بيان لوزارة الخارجية: إن قرار السفر مسؤولية المسافر وحده!
وموجة العداء الحالية تبدو فيها الولايات المتحدة وكأنها دارت حول نفسها دورة كاملة عادت بها لأولى موجاتها التي كانت تعادي الأوروبيين، فموجات القرن التاسع عشر استهدفت الألمان ثم الأيرلنديين.. ومع مطلع القرن العشرين، لم يسلم المهاجرون من أوروبا، فضلاً عن الصينيين واليابانيين من الاستهداف.
والعداء للأجانب ارتبط عبر التاريخ الأمريكي، بل والتاريخ الإنساني، بغياب التماسك الاجتماعي.. فحين يشعر المواطنون بالاغتراب يميلون لاعتبار غياب التماسك ناتجاً عن أسباب غريبة عن مجتمعهم ودخيلة على ثقافتهم، الأمر الذي يسهل معه تحويل الأجانب لكبش فداء.
ورغم أن موجات العداء للأجانب لم تختلف في مضمونها تاريخياً وكان المهاجرون دوماً أولى ضحاياها، إلا أنها اتخذت مسميات مختلفة.. ففي القرن التاسع عشر مثلاً، عندما أدت الاحتكارات لتصاعد الاحتجاجات العمالية اعتُبرت الأفكار الراديكالية القادمة مع المهاجرين الأوروبيين السبب وراء الاضطرابات..
ثم سرعان ما تحول الاتهام ضد الأوروبيين من مجرد الأفكار الراديكالية ليشمل عقائدهم الدينية المختلفة، فصارت الكاثوليكية هي العدو سواء قدمت مع موجات بعينها من الألمان أو مع الأيرلنديين. ومع بداية القرن العشرين، كان العداء للصينيين واليابانيين تحت شعار حماية الحضارة الغربية.
وقد صاحب هذه الموجة عداء لمهاجري شرق أوروبا وجنوبها، بدعوى اختلاف الثقافة بل والدين في حالتي الإيطاليين واليهود، بل وحماية الأنجلو ساكسونية الأمريكية. وفردريك دوجلاس كان محقاً حين شبه معاناة السود زمن الفصل العنصري بقهر المهاجرين..
ففي الحالتين حرمان الإنسان من حرية الحركة، الأول على أساس لون البشرة والثاني على أساس الموطن والجغرافيا. والحالة الراهنة خير دليل. صحيح أن العداء للأجانب في القرن الحالي بدأ أول الأمر باستهداف أبناء أفريقيا وأمريكا اللاتينية، ثم امتد ليشمل المسلمين، أي غير البيض عموماً، إلا أنه امتد اليوم حتى وصل الآن لأوروبا الغربية!