الماضي حين نتغنى به

د. عبدالله الغذامي
قراءة الماضي مهمةٌ سهلةٌ وخطيرةٌ في الوقت ذاته، فنحن نجنح للتغني بالماضي ووصفه بالماضي الجميل، وننسب للماضين صفات الرقي في السلوك، وفي الدين وفي الفضل وشيم البر والوفاء، وهذه ليست حقيقة الماضي المطلقة، ففي الماضي عيوبٌ كما في الحاضر نواقصُ وعيوبٌ، وما قصة هابيل وقابيل إلا شهادةٌ عن سيرة البشر الذين جاء وصفهم على لسان الملائكة في خطابهم أمام ربهم، حيث وصفوا البشر بسافكي الدماء والمفسدين في الأرض، وظلّت تلك حال البشر بين مفسدٍ يبتكر كل حيل الفساد وأساليبه، وآخر يحاول إصلاح ما أفسده الأول أو يتلمس حيلاً تحبط إفساده، ومثال الذكاء الاصطناعي تلخص الحال بين فوائده ومضاره. ونحن نعي هذا، ولكننا نظل نتغنى بالماضي، وليس ذلك إلا بمثابة الإعلان عن المفقود عندنا، وكأننا فقط ننعى على أنفسنا كونها خطاءةً وقاصرةً وتمارس واقعياً غير ما نؤمن به ضمائرياً، على أن الماضي ليس قصيدةً وجدانية ولكنه ملحمةٌ فيها دراما وفيها تراجيديا.

ولكن المنهجية في رواية الماضي ليست بالتغني به رغم جمالية التغني وإمتاعيتها ودورها في توبيخ الذات الحاضرة، لكن لابد من التأكيد أن ما مضى ليس بساطاً أخضر، ولكنه ملحمةٌ في الصراع من أجل البقاء. فقد ناضل أجدادنا ليعيشوا وليكسبوا أسباب العيش، ومن حقهم علينا أن نقف على نضالهم ونوفيه حقه في التوثيق وحفظ مقام ذاكرة الصبر وتحمل الأعباء وتحمل المسؤوليات الأخلاقية والدينية في التربية والحفاظ على النسل والأرض. والأكيد أن كتب الماضين وحكاياتهم وأشعارهم تزخر بصور بشرية عن معاناة الإنسان وكفاحه ومواجهاته للمخاطر، وقد كانت مخاطر الماضي أشد فتكاً من مخاطر الحاضر من حيث الأمراض التي لا علاج لها حين الماضي، ومن حيث سبل التنقل الخطرة والشاقة، مما يجعل الهروب نفسه مغامرةً خطيرة، وكانت الأرض على انبساطها أشد وعورةً من الخطر، الذين يهربون منه، وكل أسرة لا يبقى منها غالباً سوى عدد يسير رغم كثرة النسل، لكنه نسل تتلاقطه الأمراض والجوائح حتى لتتلاشى الأسرة ولا يبقى منها إلا نسبة ضيئلة لا تقارن بعددها المحسوب، وليس الماضي كامل الصفات ولا الحاضر كاملاً كذلك، فالبشر لما يزالوا بشراً يفسدون في الأرض مثلما يقتل بعضهم بعضاً، ويظل الماضي ملحمةً تتصل بالحاضر وتسير قوانين هذه الملحمة مستمرة ًما دمنا بشراً.



شريط الأخبار