الامارات 7 -
جون ثورن هيل
خلال كلمته في «قمة الديناميكية الأمريكية للتكنولوجيا»، التي انعقدت في واشنطن مؤخراً، روى جيه دي فانس نائب الرئيس الأمريكي موقفاً طريفاً، فقد استذكر عشاءً حضره مع زوجته أوشا في وادي السيليكون، قبل أن يصبح نائباً للرئيس، حيث دار النقاش حول استحواذ الآلات على وظائف البشر في المستقبل.
ونقل فانس عن رئيس تنفيذي لشركة تقنية عملاقة (لم يكشف عن هويته)، اعتقاده بأن العاطلين عن العمل مستقبلاً، سيجدون مجالاً بالاشتغال في مجال الألعاب الرقمية ذات الانغماس الكامل.
وقد دفعت هذه الكلمات زوجته إلى مراسلته برسالة مقتضبة تحت الطاولة: «يجب أن نخرج من هنا فوراً، هؤلاء الناس مجانين تماماً».
يثير اختيار فانس لسرد هذه القصة استغراباً واضحاً لدى كثيرين، خاصة أنها كانت تناقض المحور الرئيس لخطابه، غير أنها نجحت على الأقل في إثارة الضحك بين الحضور.
وبينما ألمحت أوشا فانس بتعبيرها اللافت إلى تناقض جذري بين رؤية المتحمسين للتكنولوجيا والعمال العاديين، فقد حملت الرسالة الرئيسة لزوجها توجهاً معاكساً تماماً، إذ أكد أن قطاع التكنولوجيا والعمال العاديين، يتشاركون مصلحة واحدة في دعم «النهضة الصناعية الأمريكية العظيمة».
وقد مثل خطاب فانس محاولة صريحة للتوفيق بين الجناحين المتصارعين داخل الحركة السياسية للرئيس دونالد ترامب: نخبة التكنولوجيا، أو ما يمكن تسميته بـ «البروليغارشية»، بقيادة إيلون ماسك، والقوميين المنتمين لتيار «ماغا»، بقيادة ملهمهم ستيف بانون، والذي سبق أن وصف قادة التكنولوجيا العالميين بأنهم معادون لأمريكا، ونعت ماسك بأنه «شخص شرير حقاً، ومهاجر غير شرعي طفيلي».
كما وصف فانس نفسه بأنه «عضو فخور بوجوده في كلا الجانبين»، وربما كان محقاً في رؤيته بأن ماسك وبانون يشتركان في الكثير، رغم خلافاتهما الحادة، فكلاهما ينتمي إلى فئة «النخبويين المناهضين للنخبة»، ويتشاركان هدفاً واحداً، يتمثل في تقويض سلطة الدولة الإدارية والإعلام التقليدي.
وقد صنّف المؤرخون قديماً طبقات السلطة إلى ثلاث: رجال الدين، والنبلاء، والعامة، ثم أُضيفت لاحقاً سلطة رابعة - الصحافة، لتظهر بعدها سلطة خامسة، تمثلت في وسائل التواصل الاجتماعي. غير أن هذه الخامسة، يمكن اعتبارها تحديثاً برمجياً للطبقة الثالثة، حيث أصبح العامة مسلحين بهواتف ذكية.
في هذا السياق، قد يمثل بانون صوت الطبقة الثالثة بينما يتبنى ماسك الطبقة الخامسة. لكن داخل الحركة الترامبية، فقد اندمج الاثنان في تيار واحد.
وقد طرح ويليام دوتون في كتابه «السلطة الخامسة» رؤية مفادها أن وسائل التواصل الاجتماعي تشكل نمطاً جديداً وإيجابياً غالباً من أنماط القوة، إذ تتيح للأفراد الوصول إلى مصادر معلومات بديلة وتعبئة العمل الجماعي، معتبراً غريتا ثونبرغ، الفتاة السويدية التي برزت كناشطة بيئية عالمية، رمزاً لهذه الطبقة، وقال: إن حجم التكنولوجيا هو ما يغير دور الفرد في السياسة والمجتمع.
وأعلن مارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لشركة «ميتا»، أن السلطة الخامسة تمثل منفعة عامة عالمية، تمنح صوتاً لمن كانوا في السابق محرومين منه، مؤكداً في 2019، أن امتلاك الناس للقدرة على التعبير عن أنفسهم على نطاق واسع، يشكل قوة جديدة في العالم.
ورغم جاذبية هذه الرؤية نظرياً، فقد أصبحت الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي أكثر بروزاً، خاصة في ما يتعلق بانتشار المعلومات المضللة، والتحريض على الكراهية، وظهور «جيل قلق» من المراهقين، حيث تحولت هذه المنصات من تكنولوجيا للتحرر، إلى أداة للتلاعب، ما أدى إلى تآكل العملية السياسية، واستيلاء الشعبويين المناهضين للمؤسسات عليها.
وأظهرت دراسة واسعة، شملت أكثر من 840 ألف شخصاً في 116 دولة، خلال الفترة بين 2008 و2017، أن الانتشار العالمي للإنترنت عبر الهواتف، ساهم في تراجع تأييد الحكومات الأوروبية بصفة خاصة، ما أدى إلى إضعاف دعم الحكومات القائمة، وتعزيز شعبية التيارات المناهضة للمؤسسات.
وأكد سيرجي غورييف، أحد واضعي الدراسة، وعميد كلية لندن للأعمال حالياً، أن انتشار الإنترنت المحمول، أدى إلى تراجع الثقة في الحكومة، فعندما تكون الحكومة فاسدة، يصبح الناس أكثر وعياً بهذا الفساد.
وقد استغل السياسيون الشعبويون بسرعة حالة السخط بين الناخبين التي أججتها وسائل التواصل الاجتماعي، مستخدمين التقنية ذاتها لحشد التأييد بأساليب منخفضة التكلفة، وذات طابع تفاعلي، حيث يوضح غورييف أنه من الطبيعي أن يلجأ السياسيون المناهضون للنخبة، إلى توظيف تقنيات جديدة، لم تتبنها النخب بعد.
ولا شك أن السلطة الخامسة، قد زعزعت سلطة قوة حراس البوابة التقليديين للمعلومات، غير أن حراس بوابة رقميين جدداً، قد ظهروا ليتحكموا بما يشاهده المستخدمون على الإنترنت، فقد اشترى ماسك، الصديق المقرب لترامب، منصة تويتر (إكس حالياً)، التي تعزز أو تقلل من ظهور المنشورات بآليات غير خاضعة للمساءلة.
والمفارقة أن المدافعين عن حرية التعبير المطلقة، الذين ينددون بالرقابة الحكومية، غالباً ما يوفرون غطاءً لأشكال أكثر خبثاً من السيطرة الخوارزمية.
ورغم إقرارهم بأنهم في موقف دفاعي على ساحة التواصل الاجتماعي، لم يفقد النشطاء التقدميون الأمل في استعادة زمام المبادرة في هذا المجال، حيث يؤكد بيرت واندر الرئيس التنفيذي لمنصة آفاز العالمية للحملات الممولة جماهيرياً، أنه أصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى، النضال من أجل المستقبل، وعلينا استخدام هذه الأدوات بأفضل طريقة ممكنة.
وتعمل منصة آفاز، التي تضم 70 مليون عضو في 194 دولة، على حشد الجهود لمكافحة الفساد، والدعوة لمساءلة الخوارزميات، كما هو متضمن في قانون الخدمات الرقمية للاتحاد الأوروبي. وشدد واندر على أن التواصل يجب أن يكون مفعماً بالمشاعر، والتأثير الذي يستخدمه الشعبويون القوميون في خطاباتهم.
ونستخلص من هذا النقاش ثلاث حقائق واضحة للتقدميين: أن قوة السلطة الخامسة، تمثل عاملاً مغيراً للواقع، وستستمر في المستقبل، وأن الشعبويين برعوا بشكل استثنائي في توظيفها، وأن التقدميين بحاجة ماسة لتطوير أساليبهم، إذا أرادوا المنافسة بفاعلية.
جون ثورن هيل
خلال كلمته في «قمة الديناميكية الأمريكية للتكنولوجيا»، التي انعقدت في واشنطن مؤخراً، روى جيه دي فانس نائب الرئيس الأمريكي موقفاً طريفاً، فقد استذكر عشاءً حضره مع زوجته أوشا في وادي السيليكون، قبل أن يصبح نائباً للرئيس، حيث دار النقاش حول استحواذ الآلات على وظائف البشر في المستقبل.
ونقل فانس عن رئيس تنفيذي لشركة تقنية عملاقة (لم يكشف عن هويته)، اعتقاده بأن العاطلين عن العمل مستقبلاً، سيجدون مجالاً بالاشتغال في مجال الألعاب الرقمية ذات الانغماس الكامل.
وقد دفعت هذه الكلمات زوجته إلى مراسلته برسالة مقتضبة تحت الطاولة: «يجب أن نخرج من هنا فوراً، هؤلاء الناس مجانين تماماً».
يثير اختيار فانس لسرد هذه القصة استغراباً واضحاً لدى كثيرين، خاصة أنها كانت تناقض المحور الرئيس لخطابه، غير أنها نجحت على الأقل في إثارة الضحك بين الحضور.
وبينما ألمحت أوشا فانس بتعبيرها اللافت إلى تناقض جذري بين رؤية المتحمسين للتكنولوجيا والعمال العاديين، فقد حملت الرسالة الرئيسة لزوجها توجهاً معاكساً تماماً، إذ أكد أن قطاع التكنولوجيا والعمال العاديين، يتشاركون مصلحة واحدة في دعم «النهضة الصناعية الأمريكية العظيمة».
وقد مثل خطاب فانس محاولة صريحة للتوفيق بين الجناحين المتصارعين داخل الحركة السياسية للرئيس دونالد ترامب: نخبة التكنولوجيا، أو ما يمكن تسميته بـ «البروليغارشية»، بقيادة إيلون ماسك، والقوميين المنتمين لتيار «ماغا»، بقيادة ملهمهم ستيف بانون، والذي سبق أن وصف قادة التكنولوجيا العالميين بأنهم معادون لأمريكا، ونعت ماسك بأنه «شخص شرير حقاً، ومهاجر غير شرعي طفيلي».
كما وصف فانس نفسه بأنه «عضو فخور بوجوده في كلا الجانبين»، وربما كان محقاً في رؤيته بأن ماسك وبانون يشتركان في الكثير، رغم خلافاتهما الحادة، فكلاهما ينتمي إلى فئة «النخبويين المناهضين للنخبة»، ويتشاركان هدفاً واحداً، يتمثل في تقويض سلطة الدولة الإدارية والإعلام التقليدي.
وقد صنّف المؤرخون قديماً طبقات السلطة إلى ثلاث: رجال الدين، والنبلاء، والعامة، ثم أُضيفت لاحقاً سلطة رابعة - الصحافة، لتظهر بعدها سلطة خامسة، تمثلت في وسائل التواصل الاجتماعي. غير أن هذه الخامسة، يمكن اعتبارها تحديثاً برمجياً للطبقة الثالثة، حيث أصبح العامة مسلحين بهواتف ذكية.
في هذا السياق، قد يمثل بانون صوت الطبقة الثالثة بينما يتبنى ماسك الطبقة الخامسة. لكن داخل الحركة الترامبية، فقد اندمج الاثنان في تيار واحد.
وقد طرح ويليام دوتون في كتابه «السلطة الخامسة» رؤية مفادها أن وسائل التواصل الاجتماعي تشكل نمطاً جديداً وإيجابياً غالباً من أنماط القوة، إذ تتيح للأفراد الوصول إلى مصادر معلومات بديلة وتعبئة العمل الجماعي، معتبراً غريتا ثونبرغ، الفتاة السويدية التي برزت كناشطة بيئية عالمية، رمزاً لهذه الطبقة، وقال: إن حجم التكنولوجيا هو ما يغير دور الفرد في السياسة والمجتمع.
وأعلن مارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لشركة «ميتا»، أن السلطة الخامسة تمثل منفعة عامة عالمية، تمنح صوتاً لمن كانوا في السابق محرومين منه، مؤكداً في 2019، أن امتلاك الناس للقدرة على التعبير عن أنفسهم على نطاق واسع، يشكل قوة جديدة في العالم.
ورغم جاذبية هذه الرؤية نظرياً، فقد أصبحت الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي أكثر بروزاً، خاصة في ما يتعلق بانتشار المعلومات المضللة، والتحريض على الكراهية، وظهور «جيل قلق» من المراهقين، حيث تحولت هذه المنصات من تكنولوجيا للتحرر، إلى أداة للتلاعب، ما أدى إلى تآكل العملية السياسية، واستيلاء الشعبويين المناهضين للمؤسسات عليها.
وأظهرت دراسة واسعة، شملت أكثر من 840 ألف شخصاً في 116 دولة، خلال الفترة بين 2008 و2017، أن الانتشار العالمي للإنترنت عبر الهواتف، ساهم في تراجع تأييد الحكومات الأوروبية بصفة خاصة، ما أدى إلى إضعاف دعم الحكومات القائمة، وتعزيز شعبية التيارات المناهضة للمؤسسات.
وأكد سيرجي غورييف، أحد واضعي الدراسة، وعميد كلية لندن للأعمال حالياً، أن انتشار الإنترنت المحمول، أدى إلى تراجع الثقة في الحكومة، فعندما تكون الحكومة فاسدة، يصبح الناس أكثر وعياً بهذا الفساد.
وقد استغل السياسيون الشعبويون بسرعة حالة السخط بين الناخبين التي أججتها وسائل التواصل الاجتماعي، مستخدمين التقنية ذاتها لحشد التأييد بأساليب منخفضة التكلفة، وذات طابع تفاعلي، حيث يوضح غورييف أنه من الطبيعي أن يلجأ السياسيون المناهضون للنخبة، إلى توظيف تقنيات جديدة، لم تتبنها النخب بعد.
ولا شك أن السلطة الخامسة، قد زعزعت سلطة قوة حراس البوابة التقليديين للمعلومات، غير أن حراس بوابة رقميين جدداً، قد ظهروا ليتحكموا بما يشاهده المستخدمون على الإنترنت، فقد اشترى ماسك، الصديق المقرب لترامب، منصة تويتر (إكس حالياً)، التي تعزز أو تقلل من ظهور المنشورات بآليات غير خاضعة للمساءلة.
والمفارقة أن المدافعين عن حرية التعبير المطلقة، الذين ينددون بالرقابة الحكومية، غالباً ما يوفرون غطاءً لأشكال أكثر خبثاً من السيطرة الخوارزمية.
ورغم إقرارهم بأنهم في موقف دفاعي على ساحة التواصل الاجتماعي، لم يفقد النشطاء التقدميون الأمل في استعادة زمام المبادرة في هذا المجال، حيث يؤكد بيرت واندر الرئيس التنفيذي لمنصة آفاز العالمية للحملات الممولة جماهيرياً، أنه أصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى، النضال من أجل المستقبل، وعلينا استخدام هذه الأدوات بأفضل طريقة ممكنة.
وتعمل منصة آفاز، التي تضم 70 مليون عضو في 194 دولة، على حشد الجهود لمكافحة الفساد، والدعوة لمساءلة الخوارزميات، كما هو متضمن في قانون الخدمات الرقمية للاتحاد الأوروبي. وشدد واندر على أن التواصل يجب أن يكون مفعماً بالمشاعر، والتأثير الذي يستخدمه الشعبويون القوميون في خطاباتهم.
ونستخلص من هذا النقاش ثلاث حقائق واضحة للتقدميين: أن قوة السلطة الخامسة، تمثل عاملاً مغيراً للواقع، وستستمر في المستقبل، وأن الشعبويين برعوا بشكل استثنائي في توظيفها، وأن التقدميين بحاجة ماسة لتطوير أساليبهم، إذا أرادوا المنافسة بفاعلية.