عبدالكريم الخطيب .. صاحب «الأرض الطيبة»

د. عبدالله المدني
أبناء السعودية ومن عاش فيها في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، أو من كان يصله إرسال الإذاعة السعودية في تلك الحقبة، لا بد وأن سمع أغنية للمجموعة مطلعها: «احرث وازرع أرض بلادك، بكره تمطر خير لأولادك، جاهد اسهر اغرس فيها، زرعك يثمر خذ واعطيها».

هذه الأغنية المحفورة في ذاكرة أجيال من الناس لم تكن سوى مقدمة موسيقية صاحبت على مدى عقدين من الزمن البرنامج الإذاعي السعودي الفريد «الأرض الطيبة» الذي تولى الإعلامي عبدالكريم الخطيب تقديمه كل صباح عبر الإذاعة السعودية من عام 1964 وحتى إيقاف بثه عام 1982 حينما تراجع الاهتمام بالشأن الزراعي لصالح شؤون أخرى.

ولأن الخطيب هو صاحب هذا البرنامج المتميز الذي كان المستمعون يضبطون أوقات ذهابهم إلى أعمالهم ومدارسهم مع موعد تقديمه، ولأنه أيضاً صاحب بصمات مشهودة في مجال الإعلام السعودي المسموع بصفة عامة، ولأنه أيضاً أديب ومؤرخ وصاحب مؤلفات كثيرة، ارتأينا توثيق سيرته وتذكير الناس به، بعد أن طواه النسيان، وتقدم به العمر وصار يتكئ على عصا في سيره.

قال عنه الإعلامي المعروف زهير الأيوبي، الذي زامله في إذاعة الرياض، إنه كان نموذجاً في العمل الدؤوب والانضباط، وأنه بسبب إخلاصه وعشقه لعمله كان يتناول غداءه وعشاءه في دار الإذاعة، بل ينام أحياناً فيها.

وكتب عنه الكاتب أحمد الدويحي في جريدة «الجزيرة» (8/11/2014) قائلاً إن الخطيب وبرنامج الأرض الطيبة صنوان، إذا ذكر أحدهما فلا بد أن يتداعى الآخر إلى الذاكرة فوراً، وأن الرجل كان واحداً من ذلك الرعيل الأول الذي حفر في الصخر، ليشكّل له حضوراً ومستمعين عبر برنامجه الموجه إلى المزارعين، والهادف إلى التوعية، والحامل في اسمه بعداً عميقاً يعبر عما بين الأرض الزراعية المنتجة وفلاحيها الطيبين.

وتحدث عنه صالح عبد اللطيف عليان السيد في كتابه «أضواء على الشعر والأدب في ينبع» فقال إنه شاعر متمكن مجيد، وأديب بارع يعبر عن واقع الحياة بأسلوب قصصي شيق، وإن له العديد من القصص والروايات الأدبية ذات الطابع الاجتماعي المميز، وإنه علاوة على ذلك مؤرخ نفض عن تاريخ ينبع غبار الزمن، وكان له قصب السبق في جمع تاريخ ينبع المبعثر من بطون الكتب، ولهذا يعتبر رائداً في هذا المجال.

ولد عبدالكريم محمود الخطيب بمدينة ينبع البحر على ساحل البحر الأحمر سنة 1933، ابناً لعائلة الخطيب الينبعاوية العريقة المنحدرة من قبيلة جهينة المعروفة.

وفي هذا السياق، سجل عن شيخ جهينة «سعد بن غنيم الجهني» قوله إن صاحبنا: «يرجع بنسبه إلى آل هاشم من قريش، وبنو الخطيب بمصر والحجاز في عداد جهينة»، مضيفاً أن المؤرخ الإمام كمال الدين الأدفوني صاحب كتاب «الطالع السعيد في أسماء نجباء الصعيد» قد ضمن مؤلفه ترجمة لجدهم الخطيب.

وللعلم فإن عبد الكريم الخطيب نفسه أصدر كتاباً عن أحد أجداده هو قائمقام ينبع «مصطفى بن محمد الخطيب» فقال: «تعود هذه الأسرة بنسبها إلى جدها الأكبر أحمد يوسف علم الدين الهاشمي نسباً، المكنى بالخطيب، المصدقة كنيته من أشراف قوص وأشراف قنا، كما صُدقت من إمام الأزهر في زمانه الشيخ محمد السبكي».

تلقى الخطيب علومه الأولية بمدارس ينبع، ومنها مدرسة «روضة» التي درّسه فيها علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر. كاد الرجل أن يذهب إلى مصر مبتعثاً بعد تخرجه في الابتدائية لمواصلة دراسته هناك لولا رفض والده.

وقد سرد بنفسه خلاصة القصة لصحيفة عكاظ (2/4/2009) فقال (بتصرف): «قبل تخرجي من الابتدائية حضر إلينا كبير مفتشي مديرية المعارف الشيخ إبراهيم نوري فقال له مدير المدرسة وجدي طحلاوي: عندنا طالب نجيب ويكتب بشكل مميز، فطلبني وقال: اكتب لي في موضوعين: الصحافة والإذاعة وأثرهما في المجتمع، وبعد قراءته لما كتبتْ شكرني وقدم لي استمارة للالتحاق ببعثة خارجية في مصر، ولكني لم أذهب لأن والدي رفض ذلك كوني ابنه الوحيد، فجلست عنده فترة في ينبع تعلمت خلالها فن اللاسلكي فعملت سكرتيراً لإدارة البرق والبريد، ولكني أصررتُ بعد حين على السفر وكان عمري 14 عاماً، فوافق الوالد بصعوبة، وتم التنسيق بينه وبين أقاربه ومعارفه من التجار في السويس كي يستقبلوني ويتفقدوا أحوالي ويرسلوا لي راتبي الشهري».

ويضيف أنه سافر بالفعل إلى مصر والتحق هناك بمعهد تابع لجامعة القاهرة لدراسة الصحافة، لأن الجامعة لم يكن بها كلية للإعلام آنذاك، ثم عاد بعد سنتين حاملاً دبلوم الصحافة.

كان الخطيب قبل سفره إلى مصر مواظباً على قراءة المطبوعات المصرية التي كانت ترد إلى ينبع بواسطة باخرة البريد الخديوية كل يومين، فيتولى الشيخ ياسين أفندي الجداوي (عم الفنانة رجاء الجداوي) بيعها وتشجيع الطلبة على قراءتها، الأمر الذي أثر مبكراً في تكوينه الثقافي والمعرفي والخطابي.

وعليه فإن تواجده في مصر أواخر الأربعينيات أسهم في تعزيز شخصيته ومداركه من خلال تزوده بمطبوعات تلك الحقبة، وقراءاته في مختلف الصحف والمجلات والروايات والكتب التي كان يشتريها من «سور الأزبكية».

حياته العملية بدأت بعد عودته من مصر بالالتحاق بالصحافة من خلال التعاون مساء مع صحيفة «البلاد» السعودية، لكنه شعر بأن فرصته في الإذاعة أفضل بسبب عدم وجود كوادر إذاعية محلية كافية في تلك الفترة، فقدم طلباً بهذا الخصوص لمدير عام الإذاعة والصحافة والنشر آنذاك الشيخ عبد الله بلخير الذي أشار على الطلب بعبارة «هذا شاب متميز فاهتموا به».

وعليه خاض صاحبنا لمدة شهر ونصف الشهر عملية التدرب على كتابة نشرة الأخبار، ليفاجأ بعدها بأن مدير الأخبار يرفضه كونه ليس من الدرعميين (أي خريجي كلية دار العلوم بمصر). يقول الخطيب إنه صُدم، لكنه كتم غيظه ولم يبلغ الشيخ بلخير بما حدث.

وتشاء الصدف أن يلتقي بأحد أقاربه من كبار موظفي الجمارك الذي توسط له للعمل بوظيفة إحصائية في جمارك جدة، فقبل لحاجته رغم كراهيته للأرقام والحسابات. ومرة أخرى، وبعد نحو 6 أشهر، يتدخل القدر فيلتقي بمدير عام الإذاعة آنذاك عباس فائق غزاوي، وكان الخطيب يعرفه من تردده إلى ينبع لزيارة عائلة زوجته الينبعاوية، وكان غزاوي قد سمع باسم الخطيب من كتاباته الصحفية بجريدة البلاد.

ذلك اللقاء أرخ لعودة صاحبنا إلى الإذاعة، ليتدرب هذه المرة على كتابة وتقديم وتسجيل البرامج الإذاعية من استوديوهات جدة، ولينفذ أول برامجه وكان بعنوان «من هنا وهناك»، ويزامل بعض المذيعين المصريين واللبنانيين ممن أتى بهم الشيخ بلخير من إذاعة الشرق الأدنى بقبرص وأوائل الإذاعيين السعوديين، ومن بينهم ابن أخته وصديق طفولته مذيع الملوك «بدر كريم الجهني» الذي أسهم بتوجيهه وشاركه تقديم برامج مثل «زاوية الصحة» و«ركن الرياضة»، قبل أن يتناوب معه قراءة نشرات الأخبار على الهواء مباشرة بأمر من مديره غزاوي الذي وجد فيه خامة إعلامية جيدة وجديرة بالاهتمام والثقة بدليل أنه اختاره لاحقاً لتولي وظيفة مدير مكتب مدير الإذاعة خلفاً لناجي مفتي الذي صار لاحقاً سفيراً للسعودية في بيروت.

تولى الخطيب تقديم برامج إذاعية عديدة، بعد أن دربه الإذاعي المصري إسماعيل عبد المجيد (أول من قدم برنامج على الناصية من إذاعة القاهرة وقبل آمال فهمي بسنوات). كان أبرز ما قدمه الخطيب حتى ذلك الوقت هو برنامج «الأرض الطيبة».

حول هذا الموضوع أخبرنا أنه بدأ بتقديم برنامج أسبوعي بعنوان «ركن المزارع» كان يعده بمجهوده الذاتي، واستمر على هذا المنوال لمدة سنة حتى عام 1964، وبعدها تقدم بمقترح لإعداد برنامج يومي مدته 10 دقائق لتوجيه المزارعين باسم «الأرض الطيبة»، فأبدى وزير الزراعة آنذاك الشيخ إبراهيم السويل إعجابه بالفكرة.

وهكذا قام قريبه د. خالد زارع بكتابة كلمات أغنية المقدمة، وأمر غزاوي بإرسال الكلمات إلى لبنان ليلحنها العازف عبد الفتاح سكر، وانطلق البرنامج حاصداً الدعم والمؤازرة والإشادة، بل دخل صاحبه التاريخ كثاني مذيع عربي يعد ويقدم برنامجاً زراعياً، من بعد المذيعة المصرية فوزية المولد.

المنعطف المهم الآخر في مسيرته كان انتقاله للعمل في إذاعة الرياض مع بدء إرسالها عام 1965، برفقة زميله صاحب الحنجرة الذهبية محمد الشعلان وبأمر من وزير الإعلام الشيخ جميل الحجيلان. وهذا الانتقال أتاح له تقديم برنامج مهم آخر محفور في ذاكرة الكثيرين هو برنامج «مجلس أبو حمدان» الدرامي الذي نجح في معالجة الكثير من القضايا، على مدى 12 سنة.

وفي عام 1989 تقاعد الخطيب من العمل بوزارة الإعلام. وبالرغم من عروض قدمت له من إذاعات خليجية للعمل كمعد ومذيع، إلا أنه آثر البقاء في وطنه والاشتغال في التأليف والنشر من خلال دار أسسها هي «دار الخطيب للنشر والتوزيع»، مع مواصلة دراسته العليا حتى نال درجة الدكتوراه التي أهلته لخوض غمار العمل الأكاديمي في الجامعات السعودية.

ويفتخر الخطيب بأنه قابل كل ملوك بلاده ابتداء بالملك عبد العزيز آل سعود، رحمه الله، الذي شاهده يوم أن زار الملك ينبع، وألقى أمامه نشيد «على الرحب يا فخر العرب» من تأليف مدير مدرسته الابتدائية نور الدين فلمبان، فكوفئ بخمسة ريالات كهدية.

ثم الملك سعود بن عبد العزيز، رحمه الله، الذي قام صاحبنا بالسلام عليه في الطائف برفقة المذيع الخاص للملك بكر يونس فقال الملك سعود لبكر «هذا رفيقك شفته من قبل» فرد الخطيب نعم سيدي عندما زرتنا في ينبع، ثم قابل الخطيب الملك فيصل بن عبد العزيز، رحمه الله، برفقة الأديب عزيز ضياء وعباس فائق غزاوي، وبعد أن عرفوه على الملك تذكر برنامجه وخاطبه قائلاً «احرث وازرع والله يبارك». وأما خالد بن عبد العزيز، رحمه الله، فقد زاره يوم أن كان ولياً للعهد وصلى معه صلاة المغرب وناقشه في بعض البرامج التراثية.

وأما الملك فهد بن عبد العزيز، رحمه الله، فقد عرفه حينما كان وزيراً للداخلية يوم أن ذهب إلى مكتب سنة 1964 طالباً السماح له بالسفر إلى القاهرة. وللخطيب مؤلفات كثيرة منها: «رهين المحبسين، أبوالعلاء المعري بين الإيمان والإلحاد».

كما أصدر 5 روايات اجتماعية. وله مقالات كثيرة. وفي فبراير 2006 كرم بمعرض الرياض الدولي ضمن المؤلفين السعوديين الرواد بحضور خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (حينما كان أميراً للرياض)، ثم كرمه الملك سلمان بن عبد العزيز مجدداً سنة 2019 لكن قبل ذلك حظي بالعديد من الجوائز والتكريمات، ومنها: جائزة أفضل برنامج زراعي في الشرق الأوسط من قبل منظمة الأغذية والزراعة الدولية سنة 1974.



شريط الأخبار