تأثير الإنصات على المتحدث

د. محمد النغيمش
جرت العادة أن تمتدح أدبياتنا العربية من يكرموننا بآذانهم الصاغية. غير أننا ننسى ما يمكن أن يستفيده المتحدث حينما يجالس من يتحلون بآداب الإنصات. وكيف يمكن أن يفيد المتحدث نفسه حينما يكون هو منصتاً جيداً. الباحثون شغلتهم تلك القضية وتوصلوا إلى نتائج متعددة كشفت أن للإنصات الجاد مزايا عديدة للمتكلم والحوار ككل.

فقد لاحظ العلماء أن فرصة تألق المتحدث في حديثه، وإثراء جلسائه، تكون أكبر عندما يجد نفسه في جلسة تنعم بالإنصات. وحينما تتبع الباحثون حوارات تخللها إنصات جاد لاحظوا أن ذلك يجعل المتحدث «أقل دفاعية وندية» في كلامه. كما يتيح ذلك له تنظيم أفكاره والتعمق في الموضوع بشكل موسع دون قطع حبل أفكاره.

وحينما يشعر المتكلم أن جليسه يبادله الإصغاء تغمره مشاعر التقدير والاحترام الأمر الذي يعزز راحته وشعوره بالقبول.

هذه الأجواء بلا شك تمهد الطريق للفهم المتبادل. ذلك أنه لا يمكن أن نطلق كلمة «حوار» من دون وجود طرفين: المتحدث والمنصتين.

والمفارقة أنه يمكن أن يكون هناك أكثر من مستمع لكن لا بد من وجود متكلم واحد. فإذا تحدث أكثر من شخص في آن واحد تشابكت الخطوط، وتعالت الأصوات، ونحرف الكلام عن جادة الحوار الهادئ. ولذلك لا بد أن نصغي لشخص واحد فقط لنفهمه قبل الانتقال لمتحدث آخر.

وعلى الجانب الآخر، تبين أن المتحدث نفسه حينما يمارس بجدية مهارة الإنصات فإنه يوسع مداركه، ويزيد بصيرته ووعيه الذاتي بحسب دراسة للباحث إيتسهاكوف وزملائه عام 2020.

ومن فوائد ممارسة المتحدث للإنصات أنه يصبح أكثر انفتاحاً على التغيير لكونه يصغي لشتى الأطراف فيكون حصيلة واسعة من الرؤى والمعلومات والتجارب التي تعينه على تقبل التغيير، أو تفهم منطلقاته، وضروراته.

وقد لوحظ أن كثرة الإنصات تسهم في تقليل التطرف بالرأي وهي مسألة جوهرية، فما أكثر العلاقات التي تصدعت بسبب الحدة وضيق الأفق. على سبيل المثال، حين يدرك أحدٌ مغزى الحديث النبوي «اختلاف أمتي رحمة» يبدأ بتقبل اختلافات الرأي. يخبرني عميد إحدى الكليات بجامعة عربية مرموقة أن أول درس تعلمه في الولايات المتحدة الأمريكية، في أثناء ابتعاثه، كان حينما قال لآسيوي: أقم الصلاة.

ففعل، لكنه ظنه يؤذن، لتكراره «الله أكبر» أربع مرات على طريقة المذهب الحنفي (بدلاً من مرتين بحسب المذاهب الثلاثة الأخرى). فقاطعه وهو يقول: («برذر» (أخي) أنا قلت أقم الصلاة وليس رفع الأذان)، فرد عليه الآسيوي بتعجب بأنه يقيمها! بعد انتهاء الصلاة سأل هذا الدكتور ضليعاً بأمور الدين عن الموقف الذي حيره، فأخبره الشيخ باختلاف الآراء حول بعض «ألفاظ» إقامة الصلاة بين المذاهب الأربعة.

والمغزى أن سماع آراء أكبر عدد ممكن من المهتمين أو المختصين بقضية ما أمر في غاية الأهمية.

كما أن تمتع المتحدث بمهارة الإنصات الفعّال يُتيح له فرصة تنظيم أفكاره، ومعرفة من يحمل في جعبته معلومات أكثر أو من يستحق مزيداً من الاهتمام باعتباره «الأفهم» في مسألة ما. ذلك أن مداخلات الناس، إذا ما لقيت أذناً واعية فإنها تساعد صاحبها على رفع مستوى إلمامه بالموضوعات المطروحة. والذي يسمع أكثر يصبح على الأرجح أكثر قدرة على تحليل الأمور بشكل أفضل واتخاذ قرارات راجحة أو مبنية على قاعدة متينة من المعلومات.

حينما نصغي جيداً فإننا نضفي احتراماً على أطراف الحوار ونفهم الأمور بصورة أدق. ولذلك فإن الإنصات فعل مشترك لا يكتمل من دون طرفين. مثل مباراة كرة التنس لن تتألق من دون قيام الطرفين ببذل قصارى جهدهم لإمتاع الجمهور.



شريط الأخبار